شعار قسم مدونات

صراع الهوية المقدسية

مدونات - القدس فلسطين مقدسيين مقدسيات أهل القدس

أنا المواطنُ أدناه

 

كتبتُ هذه التدوينة عندما سألني صديقٌ جزائري بطريقة فكاهية: ما رأيكِ أن نبدّل الجنسيات، تأخذين الجزائرية وآخذ الفلسطينية؟ صمتُّ قليلًا وأجبت: ليس لدي جنسية فلسطينية!

 
بعدما استوعبتُ أثرها، قررت أن أكتب عن هذه العملية المعقدّة التي يعيشُها أهل القُدس ولا يفهمها أحد حتى هم أنفسهم.

 

إلى كل هذا العالم الذي يقرأُني: أنا المواطنُ أدناه من بلادٍ لا تهجُرها الشمس إلا في الشتاء ولا يأتي عليها الشتاء إلا من خلال كُتب التاريخ.

 
أنا من مدينةٍ مُقدّسة، يعرفُها الجميع ولا يُنكرها أحد، لكنها تُنكر كل الوجوهِ التي تملّصت منها، التي سلبت سكانها الأصليين حقًا في أن يعيشوا كما يعيشُ بقية سكان العالم.

 

أنا المواطنة أدناه، من القدس، أملك هويةً لونها "أزرق" من دولة الكيان الصهيوني، وعند إشارة القومية مُعلّمٌ عليها بنجوم دون ذكر جنسيتي، لدَيّ جواز سفر أردني مؤقت، وثيقة سفر مؤقتة من داخلية الكيان تعترفُ بي كـ"أُردنية".

 

وفي ظل هذه الأوراق الرسمية حالي كحال جميع من رفض أهلهم أخذ الجواز الإسرائيلي حتى لا يُكتب لدينا في خانة ما "جنسية إسرائيلية" ولا تُطلقُ عليّ حُكومة الكيان في هذه الحالة إلا اسم "مُقيم" وليس "مواطن" وفي كُل الأحوال فإنّ حقوق المقيم بسيطة مقارنةً بما يتمتع به المواطن في أي دولةٍ أُخرى، وعليهِ.. فإنّ المُقيم في القدس ليس له عضوية كاملة في المجتمع كتلك التي يمتلكها أي مواطن حتى في أفقر بلاد هذه الأرض.

 

أقرُّ وأعترف أن رائحة القُدس تبقى داخلي لا تُبارحني ولا أغلبُها، أُجيب دائمًا عن كل سؤالٍ يوجه لي بأنني "مقدسية" وأشعر بالفخر جدًا، أشعرُ كأنّ تلك الأرض التي تلُوك أعداءها تُحبني جدًا وتستوطنني كأنها تسكُنني قبل آلاف الأعوام

أنا من هذه الأرض التي تعرفني جيدًا، حقوقي كمقيمة فيها لا تتعدى احترام توجهاتي السياسية ولا حقي في الإدلاء بصوتي في الانتخابات، وغالبًا في ظل دولة منقوصة الأطراف يحكمها محتلّ فإن هذه الانتخابات "غير شرعية" ولا نعتدُّ نحن بها.

 

أنا المواطن أدناه، أبحثُ عن ظروفٍ تأويني، عن جواز سفرٍ حقيقي دائم لا أركضُ لاهثةً كل سنتين أو خمس سنوات لأجددُه مع إمكانية عدم التجديد وفقًا لمزاج الطرف الآخر، أبحثُ عن أرضٍ تعرفني ولا تُنكرني كالقدس، حاراتها، أزقّتُها كما أبحث عن فلسطين داخلي دون أصواتٍ تُردد "أنتم حملة الهوية الزرقاء، تعيشون بانفتاح وانبساط، لديكم من الدخل ما يكفي وتقتلكم الرفاهية" وهو الأمر الشائع بنظرة عامة عند الجميع لكنهم لا يعرفون أننا مقيمون، رواتبنا تجاهد لتصل الحدّ الأدنى، ومقومات الحياة تكسرُ ظهرنا والقويّ فينا من يعمل اثنتي عشرة ساعة حتى يستطيع العيش.

 

أنا المواطن أدناه، لا لستُ مواطنة، إنني مقيمة بحكم القانون ومواطنة بحكم الحُب، القدَر، الوطن. هذا الوطن الذي لولا اتساع مقلتيه لمَا ضمّنا على أرضه كما ضمّ منّا شهداءَ في قبورهم.

أنا المواطن أدناه، وأي مواطنٍ يعيش مشكلتي.. سيفرح، سيحزن، سيُصاب بكل ما أوتي من عرق جبينه حتى تُسقطه جبال الأرض جميعها ولن يسقُط!

أنا المواطن أدناه، أكتبُ بقلبي وبعقلي كاملًا دون أي انحياز في هذه الأرض التي تُعطينا الكثير من مكانة اجتماعية ودينية خصّها الله في كتابه وخصّنا بكوننا حُماةً لها، وخاصة بعد أحداث الأقصى الأخيرة صرتُ أسألُ نفسي: ما فائدة أي جنسية على وجه الكُرة الأرضية والقدس تُظلل رأسنا وتشرق شمسها من وراء أجسادنا؟ تحمينا بكُل ما أوتيت من قوة ونرّدُ لها نحن جزءًا من العرفان اللامُتناهي بأننا نسكُنها دون أن نلفظ عبارات عنصرية تحثُّنا على حقنا في أن نكون مواطنيها، نحن مواطنوها رغم أنوفهم، رغم كل الصعاب التي نواجهها. لكن السؤال الذي يُثير دهشتي: ماذا لو اغتصبوا يومًا ما هويتنا وهجرّونا كما فعلوا قديمًا؟ ما الذي سيحمينا حينها؟.

 
أنا المواطن أدناه، مواطنًة دائمة حتى زوالهم.. أقرُّ وأعترف أن رائحة القُدس تبقى داخلي لا تُبارحني ولا أغلبُها، أُجيب دائمًا عن كل سؤالٍ يوجه لي بأنني "مقدسية" وأشعر بالفخر جدًا، أشعرُ كأنّ تلك الأرض التي تلُوك أعداءها تُحبني جدًا وتستوطنني كأنها تسكُنني قبل آلاف الأعوام، قبل أن أولد وحتى قبل أن أسكُن فيها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.