شعار قسم مدونات

أزمة التفكير.. البداية من "لوجيكمان"

blogs - تفكير
تذكرت طرفة عن الرئيس الشاذلي يتناقلها الإخوة الجزائريون، يُروى أنه كان مرة يستمع لكلمة للرئيس الفرنسي الذي كان يكرر كثيراً كلمة لوجيكمان، وبعد نهاية الكلمة تقدم الشاذلي ليشكر الرئيس الفرنسي على كلمته قائلا له لقد كانت كلمتك رائعة ولكنني لم أفهم كلمة واحدة منها وهي كلمة لوجيكمان، فقال له الفرنسي بسيطة هل لديكم بحر؟ قال نعم، فقال الفرنسي عندما يكون هناك سفينة على سطح البحر فيخرقها أحدهم من أسفلها ماذا يحصل للسفينة؟ قال الشاذلي تغرق فقال له الفرنسي هذا هو اللوجيكمان.

فرح الشاذلي بهذا الجواب

وأخذ يستخدم هذه الكلمة كثيراً في خطاباته. وفي زيارة له إلى دولة مالي وبعد نهاية كلمته التي كان يُلقيها والتي كان يستخدم فيها كلمة لوجيكمان كثيراً، تقدم الرئيس المالي بعد نهاية الكلمة ليشكره ومستسفسراً عن كلمة لم يفهمها وهي كلمة لوجيكمان، فقال له الشاذلي بسيطة هل لديكم بحر؟ فقال الرئيس المالي كلا، فقال له الشاذلي للأسف فإنك لن تستطيع فهمها.

ذكرتني هذه الطرفة بالطلاب الذين لا يفهمون النظرية الرياضية وتطبيقاتها اللامتنهاية القادرة على توليدها فيكتفون فقط بقراءة المثال التوضيحي البسيط وحفظه عن ظهر قلب، كما ينطبق هذا أيضاً على طالب العلم الشرعي الذي يستحضر أمثلة من التراث لإنزالها على الواقع بدون فهم الأساس النظري المولّد لهذه التطبيقات، فتكون المأساة وتعيش "الامة" تحت رحمة مثال واحد وتطبيق واحد والذي يكون عادة غير واقعي.

الخطاب العلماني الذي يريد أن يمنع العقل من التفكير في الدين وأفكاره كمصدر من مصادر المعرفة تُعينه على مواجهة التحديات والعبور إلى مستقبل أفضل، يتعارض مع الروح التي أفرزت عصر التنوير وتبعاته

فعندما نستحضر على سبيل المثال الدولة الإسلامية والخلافة يطفو إلى سطح الأفكار لكثير منّا شكل واحد وهو خليفة وأمير للمؤمنين يأمر وينهي ويُسيّر الجيوش متى ما أراد ويعزل ويسجن ويقتل بقرار يتخذه بقرارة من نفسه. وقد رسّخ هذا المفهوم المشوه العديد من العلماء و"رجال الدين" ففي خطبة لأحدهم أمام رئيس البلاد في مناسبة كبيرة يقول: إنك يا سيدي الرئيس تستطيع بجرة قلم أن تفعل كذا وكذا، هذا المفهوم عن الرئيس ذو الصلاحيات اللامحدودة التي يتكلم عنها "رجل الدين" هذا يتطابق مع هذا الشكل الوحيد للخليفة أو الرئيس المحفور في ذاكرة كثيرين، فهو يغلق باب العقل للتفكير في نماذج أخرى للدولة والحكم ويعطينا نموذجا واحدا فقط.

هذا الخطاب الديني الذي يخاطب الحواس ولا يخاطب العقل فيجعله يفكر ويطرح التساؤلات ويتفاعل مع دوائر محيطه والسياقات خطاب تخدير وتنويم وبلادة. وفي المقابل نجد أيضاً علمانيين يريدون استنساخ عصور التنوير التي حدثت في أوروبا في العصور الوسطى ويختزلونها فقط بفصل أو إخراج الدين كلية عن الحياة كوصفة للتقدم والنهوض لاعتقادهم أن الدين كمنظومة من التعاليم والأفكار هو العائق والعقبة الوحيدة التي تقف في طريقنا، وليس القول مثلا إن أحد تطبيقات الدين في تلك العصور كان سيئاً وفاشلاً.

إن هذا الخطاب العلماني الذي يريد أن يمنع العقل حتى من التفكير في الدين وأفكاره كمصدر من مصادر المعرفة تُعينه على مواجهة التحديات والعبور إلى مستقبل أفضل، يتعارض مع الروح التي أفرزت عصر التنوير وتبعاته، وهي روح البحث والتأمل في كل الفضاءات. وهكذا يقع هذا العلماني في نفس الخطأ "اللوجيكماني" الذي وقع فيه العديد من "رجال الدين". وبناء على ذلك نستنتج أننا نعيش في أزمة كبيرة في منهجية التفكير "اللوجيكماني" ليس لدى البسطاء فقط وإنما بين كثير من المثقفين علمانيين كانوا أم "رجال دين". مما يستوجب عملية تثقيف واسعة للانتقال من ثقافة الاستنساخ والتطبيق الواحد إلى ثقافة التطبيقات اللامتناهية. ورحم الله الشاذلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.