هل يعيد الزمن نفسه، أم أن الأفكار تفرض نفسها بقوة؟! فتجد أن المثقل بفكرة ما تلقي بثقلها عليه فيعيدها المرة تلو الأخرى، دون أن يلاحظ النمطية التي تتجسد بها هاتيك الأفكار.. ربما سمعت هذه القصة مئات المرات، بل لأقل سمعتها بعدد الأيام في سني حياتي، وكان ينبغي أن أتظاهر بأني أسمعها للمرة الأولى، وأرسم على وجهي علامات التعجب، أتأمل عينيها تارة وشفتيها تارة أخرى، ثم ينصرف نظري إلى المفتاح الذي ما زال يتحرك حركة إيقاعية بين يديها، تشيح به إلى اليمين وإلى اليسارة وأنا أتتبعه بناظري.
مؤلمة تلك اللحظة التي تجد فيها نفسك قد أصبحت على عتبات الآخرين، تستجدي عطفهم، تبحث عن كرامتك بين صفحات التاريخ، فنجتر الماضي ونتغنى به |
ربما لا أحمل في نفسي لهذا المفتاح ما تحمله جدتي تجاهه، فهو يعني لها الأمل والتفاؤل بأنه يوما ما ستفتح به بيتها، أو لنقل وطنها المفقود، تبدأ حديثها عادة بعبارة تقليدية (لمــّا كنّا في البلاد..)، ثم تنطلق إلى سرد حديث الهجرة واللجوء، ثم يبدأ صوتها يتحشرج تدريجيا إلى أن تنحبس أنفاسها.
ألاحظ أن كل السيدات في مثل عمر جدتي اللواتي ترك الزمن بقايا مغامراته على محياهنّ يحملن مفتاحا يشبه ذاك الذي مع جدتي، بل ربما هو نفسه، كأنهن يسكنّ بيتا واحدا، وأعلم في قرارة نفسي أن الوطن بيت كبير، وأن هذا المفتاح ما هو إلا أمل تتشبث به العجائز، نسميه نحن أبناء اليوم حق العودة، والعود أحمد..
وكما يبدأ الحديث بدايته التقليدية، ينتهي النهاية نفسها، أودع هذه اللحظات مع جدتي على أمل أن أسمع الحكاية مرة ثانية… وليست ببعيدة، فأعود وأتظاهر من جديد بأني أسمع القصة نفسها للمرة الأولى.. مؤلمة تلك اللحظة التي تجد فيها نفسك قد أصبحت على عتبات الآخرين، تستجدي عطفهم، تبحث عن كرامتك بين صفحات التاريخ، فنجتر الماضي ونتغنى بأمجادنا، ونقول "كنّا.. وكنّا".
ويبقى الضوء ساطعا في آخر النفق، وليس علينا سوى المضي قدما، مسلحين بالأمل واليقين، موقنين أننا أصحاب قضية ومبدأ، وأن النصر لمن ثبت، وستحمل الأجيال القادمة "مفتاح جدتي" لتفتح به أبواب الأمل… أبواب الوطن.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.