شعار قسم مدونات

الرجل الأبيض والاستعمار الجديد

blogs - متحف جامعة بيرتش كولومبيا كندا
في متحف الأنثروبولوجيا التابع لجامعة برتش كولومبيا في مدينة فانكوفر، يعرض المتحف تاريخ الولاية أقصى غرب كندا. فيعرض مما يعرض تاريخ الشعوب الأصلية في أمريكا الشمالية، قبائل الهنود الحمر، عاداتهم ولغاتهم. ولا يفوت المتحف الإنصاف، وبلغة اعتذارية، ذكر ما جرى عليهم من فرض قسري للهوية الأوروبية، ومسحٍ لذاكرتهم الجمعية، فضلاً عن قتل مئات الألوف ممن قاوم الرجل الأبيض للحفاظ على إرث ثقافة ولدت على هذه القارة منذ ألوف السنين. يعرض المتحف جانباً مما تبقى من لغات اندثرت، ومجسمات تخيلية لمساكنهم وملابسهم وأدوات صيدهم. ويحكي قصص التغريب القسري، حين كان المستعمر ينتزع الأطفال من ذويهم لإدراجهم في مدارس تعليم الإنجليزية والديانة المسيحية.

وللأمانة، وبلسان الرجل الأبيض الحديث، يصف المتحف ذاك التاريخ بالمخزي. كان ذلك قبل أربعين سنة فقط. كما يعرض المتحف جانبا من صور شخصيات بارزة وناجحة من أبناء السكان الأصليين الذين تروّضوا وانصهروا في المجتمع الجديد وتعلموا وصاروا رجال إطفاء ومهندسين ورياضيين. كانت أشكالهم لطيفة وطبيعية.
إن الرجل الأبيض -كما يعرض المتحف- جيل جديد متبرئ من هذا التاريخ الاستعماري. إنه اليوم رجل عقلاني طيّبُ يدعو للتعايش والسلام والمحافظة على هذه اللغات والثقافات، فقد خصص في مخرج المتحف صندوقا للتبرع في دعم الأبحاث الجارية حول هذه الثقافات البائدة، وعرض في دكان المتحف للهدايا التذكارية قبل المخرج كتباً مصورة لمن أراد المزيد من التفاصيل حول هذه الثقافات، ولا يفوته الإعلان عن دروس لتعلم بعض اللغات القديمة يقدمها بعض أبناء السكان الأصليين.

إرث الساموراي الياباني والتنين الصيني والثقافة الهندية ليست سوى سوشي ونودلز وكاري وأساطير، وتصنف حسب اليونسكو
إرث الساموراي الياباني والتنين الصيني والثقافة الهندية ليست سوى سوشي ونودلز وكاري وأساطير، وتصنف حسب اليونسكو "بالثقافات"، والبوذية والهندوسية ليست سوى مراجع روحية لهذه الشعوب

أما ما كان قبل أربعين سنة، وامتد قبلها خلال مائتي سنة، فهو تاريخ يرويه الرجل الأبيض باعتذار وألم، بعد أن أرسى قواعد نظامه وهويته وبسط نفوذه الثقافي والديموغرافي واطمأن للغلبة العددية في هذه القارة. لم يعد هناك ما يدعو الرجل الأبيض لأن يكون همجيا بعد اليوم، أو قل، لم يعد هناك ثمة ما يمنعه أن يكون أخلاقياً، فقد أراق ما يكفي من الدماء في ثلاثة قرون من الاستعمار ليرسي قواعد اللعبة لصالحه والنظام العالمي الجديد حسب معاييره، وما عليه اليوم إلا الدعوة للسلام والتعايش تحت ظل هذا النظام "العالمي"، ويكون أخلاقيا حسب قانونه.

إن الاختبار الحقيقي للأخلاق يكون في أوج المنافسة، وشدة المدافعة، بين أطراف قوية هي الأخرى. حينها يكون استخدام الأساليب غير الأخلاقية مغرياً، والالتزام بالأخلاق قد يكون مكلفاً. لكن أي تحدي أخلاقي لمن هو متمكن في الصدارة بلا قوة منافسة؟ ما أكثر ما يُشاد بأخلاق المتمكن، بكرمه وتسامحه. ألا ترى أنه مبادر دائماً للدعوة إلى السلام والتعايش، أو قل التصالح مع الواقع الذي فرضه، صارفاً انتباهنا عن التاريخ الدموي لصناعة هذا الواقع الذي بناه لصالحه، ومعتذرا عنه ومتبرئا منه باستحياء في أفضل الأحوال.

إن ما فعله الرجل الأبيض الرأسمالي من مسح كامل لهوية شعب قارتي أمريكا وأستراليا، فعله بشعوب أخرى بدرجات متفاوته، وما شعوب الهند وأفريقيا ومصر وليبيا والجزائر سوى محاولات كانت ستلحق مصير الهنود الحمر لولا بعض المقاومة التي أبدتها.

الخلاف الجوهري حول علاقة الديني بالدنيوي، والدين بالسياسة، والأخلاق بالاقتصاد، يبرز نظامين متضادين لا يمكنهما التوافق، ويشكل صراعاً وجودياً نهايته صفرية لأحد الطرفين

انتهى عصر الاستعمار، وانتهى إلى استقلال أغلب المستعمرات سياسياً، ولم تنته تبعيتها للرجل الأبيض اقتصاديا وثقافيا. ولم تبق هناك أنظمة فكرية تهدد أو تنافس الفكر والنظام الغربي، إلا فكر واحد لا يزال يشكل تهديدا حقيقيا لهذا النظام الإسلام.

على الرغم من وجود قوى تنافس -مع بعيد- الرجل الأبيض، كالصين واليابان والبرازيل والهند، إلا أنها منافسة اقتصادية لا تخرج عن إطار قواعد المنافسة التي وضعها الأبيض. ليس لدى هذه الدول ثقافات تهدد الغرب بعد أن اطمأن الأخير أنها لا تعدو كونها ثقافات فلكلورية وأديان لا تقدم أي رؤية دنيوية حول ما ينبغي للعالم أن يكون. فإرث الساموراي الياباني والتنين الصيني والثقافة الهندية ليست سوى سوشي ونودلز وكاري وأساطير، وتصنف حسب اليونسكو "بالثقافات"، والبوذية والهندوسية ليست سوى مراجع روحية لهذه الشعوب، لا أيدلوجيات لها حضورها في الفضاء الفلسفي والأكاديمي والمعرفي الجاد. لذا لا يجد الغرب بأساً اليوم في ملاطفة هذه الثقافات والإشادة بمأكولاتها وأشعارها وفنونها العمرانية والقوة الروحية لأديانها، وهو الذي كان يصفها بالكفر والانحراف والجهل تبريراً لغزوها أيام الاستعمار.

إلا الإسلام، فهو لا يقدم نفسه شعراً وزخرفة إسلامية وحُمُّص وفلافل، إنما نظاماً منافساً ذَا أصول وقيم ومفاهيم مختلفة تماماً. الإسلام نظام له رؤية اقتصادية اجتماعية سياسية تنطلق من أصول معرفية مختلفة، والأخطر من ذلك هذا الفهم للإسلام أنه لا يزال حيّا في نفوس أغلب المسلمين الذين يبدون رغبة في تمكين هذه الرؤية.

وتكمن خطورة الرؤية الإسلامية على النظام الغربي باختلافها الجوهري حول علاقة الديني بالدنيوي، مما يجعلهما أيدلوجيتين متصارعتين. حيث يرفض الإسلام الفصل بين الدين والدنيا، ويصر على حضارة يسودها ثقافة لا يغيب انتباهها عن العالم الآخر، بعكس الحضارة الغربية المادية التي يصف ‏البروفيسور ج. موزيكارز علمانيتها بأنها تبعد "انتباه الإنسان عن ظاهرة الموت".

هذا الخلاف الجوهري حول علاقة الديني بالدنيوي، أو الدين والسياسة، أو الأخلاق والاقتصاد، يبرز نظامين متضادين تماما لا يمكنهما التوافق، ويشكل صراعاً وجودياً، نهايته صفرية لأحد الطرفين. وقد استطاع الرجل الأبيض علمنة جميع ثقافات الأمم، ودفعها في زاوية "الفلكلور" أو "الدين المجرد" وتحييدها بعيدا عن الفضاء الدنيوي. لذا لا تجد صراعاً "حضاريا" بعد اليوم بين الغرب والهنود، أو اليابانيين، ولا حتى الصينيين سوى منافسة اقتصادية. ولم يتبق إلا الإسلام، لهذا لا يزال يحارب حتى يُعلمن، ويُدفع من دائرة الاسلام، الدين الحي الشامل الفاعل الذي نعرفه، إلى دائرة الفلكلور الإسلامي أو الثقافة الاسلامية، ثقافة رموزها أشعب والجاحظ والحلاج.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.