شعار قسم مدونات

بؤس الحرب.. "كل شيء هادئ في الميدان الغربي"

blogs الحرب العالمية الأولى

إنّ الحديث عن الكوارث دائمًا ما يكون مأساويًا، وتمتلئ الأعمال الأدبية التي تحكي عنها بكثير من المشاعر الحزينة والأسى – رغم الشعور بالامتنان لهذه الكوارث بأنّها كانت سببًا في خروج مثل هذه الأعمال- وأينما ذُكرت الكوارث، تُذكر الحروب.. وما إن تُذكر الحروب، يحضر الموت بأجنحته السوداء يرفرف في سماء الحكاية ضاحكًا.

من خنادق الميدان الغربيّ، من تحت أعلام الجيش الألمانيّ، من بين ظلمات الجنون العالميّ، ومن خلف المدافع، والقنابل، والرشاش الآليّ، تأتينا هذه الحكاية.. حكاية سبعة جنود شبّان، لم يتجاوز عمر أحدهم العشرين، خُدعِوا بشعارات رنّانة ودعاوى طنّانة عن الحرب من مدرِّسيهم، وخاصة من ناظر مدرستهم المخادع.

ففي روايته العظيمة "كل شيء هادئ في الميدان الغربيّ" يحكي إريك ريماك الروائيّ الألمانيّ عن الحرب العالمية الأولى، عنه، وعن أصدقائه الذين تطوعوا معه في الجيش الألماني لخوض الحرب، وعن مآسي الحرب، وظلمات الخنادق، وعن رائحة الموت.. نعم رائحة الموت، للموت رائحة، كما للاستبداد رائحة خانقة، وأنفاس ثقيلة بالكاد نستطيع أن نأخذها.

يحكي في روايته، بل يصرخ بها المؤلف في وجه العالم كله، صرخة لا يرجو منها سوى دفع العالم نحو نبذ العنف والحرب، ويدعوهم لاستتباب السلام بينهم، ينقل لهم، ولنا، ما قد يفتّت الأكباد من شدة الحزن، وأحداث من فرط قسوتها، ومن فرط الحسرة فيها، كفيلة بأن تجعل العالم كله للمرة الأولى أن يتفق على أنه لا حرب، ولا دمار، ولا قتل، بعد الآن.

 رواية كل شئ هادئ في الميدان الغربي  (مواقع التواصل)
 رواية كل شئ هادئ في الميدان الغربي  (مواقع التواصل)

هؤلاء الصبية، لم يعودوا كذلك، وإنّما "كان هذا في الماضي البعيد.. أما الآن، فقد شِبنا، ودبت الكهولة في نفوسنا..". هؤلاء الذين لم يكن بوسعهم رفض التطوع، أو التخاذل عن الحرب.. فمن شدة ما كانوا مخدوعين، لم يكن لديهم مكان يُسمح به للمتخاذل فيما بينهم، فإن تحمّلت وصمك بالـ "جبان" من أصدقائك، فإنك لن تتحمّله من أهلك، من أبويك، من نظراتهم وتعبيراتهم، ومن نظرتك لنفسك بأنك قد خذلت وطنك.. ليتك خذلته يا رجل!

صبية في الثامنة عشر من عمرهم، في بداية الحياة، ومقتبل العمر، الفترة التي يقول عنها ريماك "إن حياتنا المبكرة بُترت بترًا منذ أن وطئت أقدامنا ميدان القتال، دون أن يكون لنا يد في بترها..". ففي الحرب تنتهي الحياة، وتختفي إنسانيتك، ولا يُنظر إليك كآدمي، أو كجندي من لحم ودم، وإنّما كرقم، فيحكي ريماك عن رد أحد الممرضين عليه في المستشفى، واصفًا حال صديقه، فقال "هناك عمليات متصلة منذ الفجر.. وبلغت الوفيات اليوم 16 وصاحبك هو السابع عشر.. ومن المرجّح أن يصل الرقم إلى 20 قبل نهاية اليوم..". 

وفي وسط الفترة ما بين تسجيلك كرقم في قوة الكتيبة، وكتابتك في سجلات الموتى، يستحيل لونك للشحوب، وتفقد عقلك مع القنبلة الأولى في ميدان القتال، تصبح حينها حيوانًا.. حيوانًا تحركه غريزته في البقاء فقط، تقتل وتمزَّق أبوك حتى إن كان في صفوف العدو، هكذا وصفها ريماك، وأكمل أنه يمكنك في فترات الراحة بين المعركة والأخرى أن تعود إنسانًا، أن تعود لك مشاعرك وعواطفك.. ولكن ما إن يُسمع صفير القنابل، تستحيل إلى حيوانٍ مرة أخرى.

بالرغم من كل ما قاله ريماك بالرواية عن فجاعة الحرب، ومن كل ما ستقرأه، رغم هذه المصارحة الفاجعة للعالم، ولدولته، ورغم كل شيء، لن تنتهي الحروب أبدًا.. وستظل هي بلاء البشرية الأكبر

الحرب مفزعة، يمكنك بكل سهولة أن يُمحى ذكرك من الحياة بطلقة، بوخزة في صدرك من نصل سكين سلاح أحدهم، وحينها، ستصبح بلا ذكر، حينها، لن تصبح أصلًا.. وإن نجوت، فلن تستطيع أن تُصبح كما كنت، فمع المعركة الأولى، ومع بذرة القتل والدمار الأولى، تتحول إلى كائن هلامي، لا يخطر ببالك مستقبل، تصبح حينها شبحًا تائهًا.. ففي الحرب، يتوقف الزمن، ولا يعود، ولن يعود.

ولن أتوسّع أكثر في الحديث عن الرواية وتفاصيلها، حتى لا تفقد متعتها، أو يشعر أي شخص بأنّه لم يعُد هناك بدٌّ من قراءتها، وسأترك الحديث عن نصف رواية الثاني، والأهم، مفتوحًا، لتحفيز من يقرأ على قراءة الرواية، والاستمتاع بها، دون تأثير مُسبق، أو رأي غير شخصي له.. وبالرغم من كل ما قاله ريماك، ومن كل ما ستقرأه، رغم هذه المصارحة الفاجعة للعالم، ولدولته، ورغم كل شيء، لن تنتهي الحروب أبدًا.. وستظل هي بلاء البشرية الأكبر، وهي آلة الموت الأكثر مجانية في العالم. 

فمثلما فعل ألبير كامو في "المقصلة" ومثلما جسّد فيكتور هوجو في "آخر يوم لمحكوم بالموت" فظاظة حكم الإعدام، وكان لهم تأثير كبير في منع تنفيذ حكم الإعدام في العديد من الدول؛ فعل ريماك هنا نفس الشيء، ولكن لسوء حظه، وحظنا، وبرغم انتشار الرواية، فإن الحرب لم، ولن تنتهي. وللسخرية، فإن من أشعل الحرب ثانية، أهله، وشعبه، وحكّامه، وكأن الحرب مصيرنا، وكأن الأهوال ترفض أن تذهب عنّا، وكأن الجنون والموت تلاقا، فأحب كل منهما الآخر.. وتزوجا، على فراش الحرب.

وأخيرًا.. إن أردت يوما قراءة الرواية، فيمكنك شراءها من منافذ دار الهلال، أو تحميلها مجانًا من الإنترنت.. قراءة ممتعة، عن أحداث موجعة.. ولا يسعني سوى أن أشكر تلك الكوارث التي لولاها ما كان هذا العمل خرج، ولا كنا نحذر من الحرب هكذا.. رغم علمنا بأنّها لن تنتهي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.