شعار قسم مدونات

حديث العلمانية.. بين العمل الحقيقي والترف الفكري

blogs قراءة
مما تميز به المجتمع الحالي هو الخمول الفكري أي البحث عن أسهل الأجوبة فهمّه في ذلك هو مجرد تجنب الحرج، فلو أخذنا على سبيل المثال قضية الإرهاب العالمية والموجهة بالدرجة الأولى إلى المسلمين الذين تحمل إجاباتهم لمحة انهزامية واضحة يحتج لها بالدين الذي من أهم مبادئه أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وكذلك بالنسبة لقضايا فكرية مثل حد السرقة والردة وقضايا المرأة وغيرها، هذا الحرج الذي تنبع منه هذه الإجابات هو أحد أطوار عملية تحويل الإسلام من كونه هوية إلى أن يكون محض تكليف يتكون من تكاليف فرعية، وبطبيعة الحال هذا سيجعل هذه التكاليف قابلة للتطويع بحسب الحاجة.

إذن نحن نتحدث عن مجتمع غير واضح المعالم والمعمار المعرفي الذي من المفترض أن يختص به والحال بالمناسبة لا يختلف كثيراً بالنسبة للعلمانيين والليبراليين العرب، وبداية الانحدار إلى هذا الوضع بدأت منذ عهود الإستعمار في مطلع القرن السابق، إذ قام الإستعمار حينها بتطبيق منظومة قيادية متكاملة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والثقافي، ولأن تلك الحقبة خلت من أي حراك ثوري إلا القليل هنا وهناك، فقد لقيت هذه المنظومة استجابة سريعة وتفاعل من المجتمع، وأصبحت مع مرور الوقت جزءا من حياته، وحتى الصحوة الإسلامية التي قامت متجلية في جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية وغيرها من الجماعات وجدت نفسها مضطرة للتعامل مع هذه المنظومة ومن أكثر ما دفعها إلى ذلك هو التباعد بين بعضها البعض على الرغم من أن هذه الجماعات من المفترض أنها تمثل المشروع الإسلامي.

لاحقاً وجدت معظم هذه الجماعات نفسها مشغولة بالحفاظ على وجودها وتماسكها في حين ظهرت التحركات داخل الدول والمطالبة بالاستقلال وقد تم ذلك بطريقة أو بأخرى ولكن ذلك الاستقلال لم يكن سوى تغيير للوجوه التي ستعمل لاستكمال نفس المسيرة التي بدأ بها الاستعمار والسلوك نفسه الذي سيتم به قيادة المجتمعات، ومع مرور الوقت تزداد الهوة بين المجتمع وهويته الحقيقية اتساعاً وتتعقد مهمة استرجاع تلك الهوية أكثر فأكثر.

لا أستطيع أن أجزم أن الإسلام قد عاد غريباً كما بدأ ولكن الواضح أن المؤمن الحريص على الالتزام بتعاليم دينه قد استوحش المسلك الذي يخوضه نظراً لما يحاط به من طغيان مادي

إذن في الوقت الذي سيطرت المادة على القيمة وسقطت القدسية عن المقدس وضاعت البوصلة عن المسار الصحيح، قامت الدنيا ولم تقعد على إثر حديث مسؤول ما عن خطط مستقبلية عن تمكين العلمانية، في حين لا أكاد أجد من يتساءل: ألم (يتعلمن) المجتمع بأكمله بالفعل؟ ألم تتم هذه العلمنة فعلاً وعلى مدى عقود عندما صارت مسائل الدين تُفند بحيث تتوافق مع الرؤية الغربية، وفريضة الجهاد تكاد تسقط من المدونة الإسلامية في ظل خطاب مكافحة الإرهاب الطاغي وكثير مما هو موجود في ميراث السلف تتم إعادة صياغته بحيث يوافق النهضة الفكرية الحديثة.

لا شك أن تناول مصطلحات ومعاني مثل العلمانية والليبرالية والديمقراطية وحتى الإسلامية على هامش المقارعة السياسية المتعددة الأطراف هو مجرد تناول مصلحي، فمن يدعو للعلمانية على سبيل المثال إما أنه ينشد قبول الغرب له أو حشد طائفة ما لمساندته في صراعه السياسي أو أنه يسعى لتفعيل فصول بعينها لتخدم غرضاً معيناً ثم يلقها خلف ظهره كأن شيئاً لم يكن، ولن تجد سياسياً عاقلاً يلزم نفسه بحزمة مبادئ وأصول كاملة لعلمه أنها في يوم ما ستتعارض مع مسيرته المهنية، وأظن أننا رأينا عدة أحداث من الواقع العربي عن أناس قدموا أنفسهم كعلمانيين وليبراليين وأنصار للديمقراطية احتكموا للعملية الديمقراطية ثم سرعان ما تمردوا عليها فظهروا أمام العالم أنهم خلاف ما ادعوه.

إذن فليس كل من يدّعي أن لديه مشروع علماني يجب الاعتداد به، ناهيك عن الفترة الزمنية التي طرحها وهي عشر سنوات لأن المشروع العلماني أكبر من أن يضع أحد ما إطار زمني له أصلاً، من ناحية أخرى من يريد أن يهب وقته وجهده لمجابهة العلمانية فالأصلح له العمل على المجتمع من خلال التوعية الدينية والثقافية والفكرية وهذا نظراً للواقع عمل ضخم جداً يحتاج استنفارا كاملا من كل الكفاءات والكوادر وأصحاب الإمكانات مصحوباً بدعم سخي غير متوقف.. أما التصدي لدعاة العلمانية في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي فلا يعدو كونه انتصاراً محدود لا يكاد يخدم القضية بالأساس ولا يكاد يؤثر بشيء بالنسبة لأولئك الذين يعانون لشهور في مجتمعاتهم إذا قرر أحدهم عدم مصافحة النساء أو ترك لحيته أو قصّر ثوبه قبل أن يعتاد الناس عليهم.

لا أستطيع أن أجزم أن الإسلام قد عاد غريباً كما بدأ ولكن الواضح أن المؤمن الحريص على الالتزام بتعاليم دينه قد استوحش المسلك الذي يخوضه نظراً لما يحاط به من طغيان مادي يقذف بسهامه نحوه بحيث إما يتحمل أو يحيد عن المسلك ليكون شأنه شأن الغالبية العظمى من الناس، ولذلك هذا الشجب والاستنكار لمشروع العلمانية المزعوم لا يتعدى الحوارات التي تدخل تحت طائلة الترف الفكري، فصاحب المشروع والمستنكِر له معاً وُلدوا ووعوا على واقع لا تحتاج علمنته سوى وضع النقاط على الحروف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.