شعار قسم مدونات

بورما.. سياق سياسي عام وإنسانية مع وقف التنفيذ

blogs مايانمار

ينطق لسان حال كل فكر أخلاقي، أن المبادئ لا تتجزأ، وأن الحق أحق أن يتبع كما حث على ذلك كل الشرائع السماوية، والتيارات الفكرية المنبثقة عن اجتهادات بني البشر على مر العصور. غير أن الواقع يتناقض بشكل صارخ مع التنظير، وخصوصا حين تتخلل المشهد الحقوقي والإنساني اعتبارات تحول دون الانتصار لهذا الحق.

يعتبر عصرنا الحالي المتسم بصراع ما بعد الحداثة، أكثر العصور المقدسة لحقوق الإنسان، والمنتجة لترسانات مهولة من النصوص، والمعاهدات التي تهدف تحسين ظروف عيش المواطنين داخل المجال المشترك في إطار الدولة المدنية الحديثة واستقلالية المؤسسات، غير أن كل هذه الإجراءات لا تنفك توضع في ميزان الميدان، الذي يثبث بشكل لا يدع مجالا للشك أن جوهر تطبيق هذه النصوص، يشوبه قدر كبير من الانتقائية وازدواجية المعايير، ولنا في طامة مسلمي الروهنجيا نموذجا مستوفيا شروط بطلان ادعاءات المجتمع الدولي، وترانيمه الوردية التي تتلى على مسامعنا ليل نهار. فحقوق الأقليات مثلا، سارية المفعول ما إذا كان موضوع النزاع المثلية الجنسية أو الإلحاد الديني وأحيانا الاضطهاد السياسي، إلا أنه يجد حائط صد سميك، وأذان صم، حين يتعلق الأمر بأقلية مسلمة تعيش بإقليم أركان، لا يطلبون غير حقوق المواطنة العادلة.

هم اليوم يقتلون ويهجرون بالآلاف ولا داعي لذكر أساليب التعذيب الممنهج وجرائم الإبادة التي تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي، صور وأحداث يدمى لها القلب السليم، ويندى لها جبين كل ذي كبد رطب، لهذا كله وجب علينا أن نتعرف ولو بشكل طفيف، عن أصل الصراع، وتاريخ معاناة هذا الشعب الطيب، نصرة للإنسانية ولبقايا الصواب في هذا العالم المجنون.

فرقة وتنازع، أججتها معطيات الواقع الحالي المزعج، واقع أنتجته توجهات ما بعد 11/9، التي وضعت الإسلام والمسلمين في مواجهة مدفع الكراهية والعنصرية، لأسباب سياسية نعلمها علم اليقين

وصل الإسلام إلى هذه البلاد في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، في القرن السابع الميلادي على يد الرحالة المسلمين، حتى أصبحت دولة مستقلة تعاقب على حكمها 48 ملكا مسلما لثلاثة قرون متوالية، إلى أن عم الإسلام مختلف بقاع بورما، وما بقي من الأثار الإسلامية لازال يشهد على أحقية مسلمي الروهنجيا في بلادهم الأصلية، وبطلان ادعاءات الحكومة البورمية بشأن احتلالهم لإقليم أركان.

ظل الوضع على حاله حتى سنة 1784م ، حيث قام الملك البورمي البودي (بوداباي) باحتلال إقليم أركان، وضمه إلى بورما، خوفا من انتشار الإسلام، وقام في سبيل ذلك بارتكاب مجازر في صفوف دعاة وفقهاء مسلمين، وعرف المسلمون في هذه الفترة أبشع أنواع التعذيب، والتهجير والاستضعاف من قبل البوذيين، حتى سنة 1937م حين قامت بريطانيا باحتلال بورما، لتبدأ حلقات مسلسل جديد من معاناة أقلية الروهنجيا، وهذه المرة بغطاء ودعم من قوات الاحتلال البريطاني، ساهم ذلك في إعطاء البوذيين الغلبة، والسيطرة على الإقليم ومجريات الأحداث فيما بعد، حيث أقيم مؤتمر (بينغ لونغ) قبيل الاستقلال سنة 1947م، دعيت إليه مختلف مكونات المجتمع البورمي، باستثناء الروهنجيا بغية عزلهم عن أي موقف اتخاذ قرار أو تحديد المصير .

وفي 4 يناير 1948م منحت بريطانيا الاستقلال لـ "بورما" شريطة أن تمنح لكلِّ العرقيات الاستقلال عنها بعد عشر سنوات إذا رغبت في ذلك، ولكن ما إن حصل "البورمان" على الاستقلال حتَّى نقضوا عهودهم، حيث استمرت في احتلال أراكان دون رغبة سكانها من المسلمين الرّوهينغا والبوذيّين "الماغ" أيضًا، وقاموا بممارساتٍ بشعةٍ ضدَّ المسلمين، وظلَّ الحال على ما هو عليه من قهرٍ وتشريدٍ وإبادةٍ ليزداد الأمر سوءًا بالانقلاب الفاشي 1962.

يستوقف القارئ لهذه السطور سؤال ملح، عن دوافع وأسباب كل هذا الكره والترهيب، الممارس على أشخاص لم يختلفوا مع غيرهم إلا في المعتقد، واشتركوا في سائر الوظائف العضوية والمعنوية الأخرى المحددة للنوع البشري؟! رغم أني لست من المشجعين لنظرية المؤامرة، إلا أنني متأكد أن هناك سياسات ممنهجة للتخلص من الدين الإسلامي ومعتنقيه على حد سواء، إن لم يكن بالقتل والتهجير والإبادة، فبالفقر والجهل والظلم والاستبداد، والمؤسف أننا نحن من نقدم أنشوطات مشانقنا لجلادينا، غير مبالين أن الفرقة والتمذهب والتمترس وراء التدين السطحي والصوري من أهم أسباب تكالب الأعداء، مصداقا لقوله تعالى: "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ".

فرقة وتنازع، أججتها معطيات الواقع الحالي المزعج، واقع أنتجته توجهات ما بعد 11/9، التي وضعت الإسلام والمسلمين في مواجهة مدفع الكراهية والعنصرية، لأسباب سياسية نعلمها علم اليقين، فكل هذه الإجراءات تعزى لسبب واحد ألا وهو رغبة الأنظمة الكبرى في إنشاء فزاعة جديد بعد انهيار (بعبع) الشيوعية، ليحل محلها تنظيم القاعدة تارة، وداعش تارة أخرى، وكل هذه سياسيات معلومة المصدر والنتائج، بيد أن رد فعلنا اتجاهها، هو ما يترك العجب في تعجب.

التطرف ليس سمة دين أو طائفة أو شعب بعينه، بل هو ناتج ظروف إن هي اجتمعت، أستوطن الخراب والدمار واستحال العيش والتعايش، ألا وهي: الجهل، العنف، والمقدس

"صعود ترمب لن ينهي العالم ولكنه سيزيد من جنونه" مقولة طالما ترددت عقب انتخاب ترمب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، ونرى ذلك اليوم رأي العين فهناك شبه تطبيع تام مع مصطلحات العنصرية والكراهية، فحين يقول رئيس أكبر دولة في العالم والناطقة الرسمية باسم حقوق الإنسان، أنه سيطرد كل المسلمين من أميركا، كيف لنا بعد ذلك أن نطالب حكومات جنوب شرق أسيا أن يحترموا حقوق الأقليات؟ مع الأخذ في الاعتبار التوجه الحالي لأغلب الدول الغربية نحو تيارات اليمين واليمين المتطرف، المعادية لكل ما له علاقة بالدين الإسلامي، كرد فعل طبيعي لسياسات الإعلام الحريصة على شيطنة وتشويه صورة المواطن المسلم والأجنبي بصفة عامة، وهو ما عزز شعور الخوف من الأجانب(xénophobie) لدى الرأي العام الغربي.

 

وهو ما اتضح جليا في نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وإن لم تحظ الجبهة الوطنية بالأغلبية إلا أن استطاعتها إقناع سبعة ملايين ناخب، في بلد كفرنسا المساواة والأخوة والحرية، حدث يدق ناقوس الخطر ويستنفر بشدة جهود الحوار والتصالح على مختلف المستويات والأصعدة، بغية إرساء دعائم التعايش المشترك وقبول الاختلاف من جديد، وعلينا أن نبدأ بأنفسنا أولا كما قال أحد الحكماء ولعله المهاتما غاندي (للمفارقة) "كن التغيير الدي تريد أن تراه في هذا العالم". التطرف ليس سمة دين أو طائفة أو شعب بعينه، بل هو ناتج ظروف إن هي اجتمعت، استوطن الخراب والدمار واستحال العيش والتعايش، ألا وهي: الجهل، العنف، والمقدس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.