شعار قسم مدونات

الهروب الكبير.. الحب بين الخفة والثقل

blogs الحب

وددت لو صادقتُ على كلامك بخصوص الحب والخفة والثقل، لو أني قلتُ في الحب مثل ما تقول، تمنيت لو أني اعتبرت الوقوع في الحب يوقعنا في صدارة المشهد، وفي قلب التاريخ، وأنه يعني بشكل ما تنازلاً سلساً لأناتنا لصالح الآخر (المحبوب). وددت لو قلت أن الحب يمنحنا الخفة، ويمنع عنا الثقل، ويجنبنا رمادية ما بين الخفة والثقل، لو قلت أنَّا نكتمل بالحب، نصيرُ أقوى، وأكثر صلابة لنبصق في وجه الحياة والتاريخ، لو اعتبرت الحب مثلك استعارة عن الوصول، وتحققاً للطلب، ليت شعري لوددت لو أني رأيت في الآخر سكناً كما تصف، أرضاً يابسه نصل إليها بعد طول إبحار وسط المياه الشاسعة. أنَّ أشبهه للناس مثلك بأنه القشة التي يتعلق بها الغريق خوف الغرق المرير في دوامات الوحدة والعزلة والوحشة عن العالم وعن الوجود. لكني لم أر أي من هذا، ولا أحسبني أراه.

وعلى العكس تماما، فلطالما رأيت في الحب أعلى تجلي للإحساس بالثقل غير المحتمل، والخفة التي تهدد بالطيران وضياع كل شيء. الحب عندي لا يضعنا في قلب التاريخ، ولا في صدارة المشهد؛ بل يتركنا في حقيقة الأمر على قارعة الطريق، وقارعة التاريخ، على الحافه والهامش مهددين في كل لحظة بالسقوط. بالسقوط المرير والمخزي والكارثي. تنازلنا أيضاً عن جزء من أناتنا لحساب الآخر لا يعد فضيلة يُكرَمُ الحب من أجلها، بل على الحقيقة إن كل ذرة تذوب من الأنا ومن الذات لحساب الآخر، لهي تهديد صريح للذات، خطرٌ داهم يُنبئ عن شتاءات خذلان لا تنتهي وجراح لا تندمل. يصير هذا التهديد للذات واقعاً ملموساً في حالة لم يحتوِ الآخر هذه الأنا المبذولة. ودعونا نسأل هنا ماذا لو رحل الآخر – لأي سبب كان – آخذاً معه هذه الأجزاء من أناتنا؟ أولن يكون كيان الذات في خطرٍ تام؟ على هذا فإن ذوبان الأنا أو جزء منها في آخر-حتى ولو كان محبوباً-، لهو أخطر ما قد تواجهه الذات على الإطلاق. هذا يقيني على كل حال.

أن نحب يعني أنَّ نتعرى أمام الآخر، فيصبح الآخر مطالب بكل مرة نتعرى نحن فيها أمامه، أن يغطي لنا هذا العراء، وأن يلملم شعثنا ويزيلُ غَبرتنا. وكلما زاد عرائنا زاد الثقل والحمل على الآخر
أن نحب يعني أنَّ نتعرى أمام الآخر، فيصبح الآخر مطالب بكل مرة نتعرى نحن فيها أمامه، أن يغطي لنا هذا العراء، وأن يلملم شعثنا ويزيلُ غَبرتنا. وكلما زاد عرائنا زاد الثقل والحمل على الآخر
 

إننا لمطالبون بتعريف الحب على أنه ركوب لبحر المجهول. وبهذا التعريف وحده نكون قد عَرفنا الحب كما يجب ويحبُ هو أن يعرف. بهذا التعريف وحده نقدم اعتذارا صادقاً لكل القلوبِ المخذولة والملقاة على قارعة الطريق مثخنة بالجراح. جراح الخذلان بعد طول اتكاء. فبهذا التعريف وحده يمكن لكل واحد من هؤلاء المخذولين أن ينعم بدقيقة فخر ولو كاذبة، بأنه وفي يوم من الأيام كان قبطانا ضمن أولئك الشجعان الذين خاضوا غمار بحر مجهول – بحر الحب – مسلحين بالعدم والرغبة في الكمال.

إننا حين نقرر أن نحب أحدهم، فإننا وبشكل من الأشكال نقدم على الانتحار، ننتحر كالبلهاء راسمين تلك الابتسامة العريضة – ستنتهي يوماً ما – على الشفاه المسكينة. لكنه انتحار سعيد على كل حال، هكذا يُخيلُ للمحبين. فلكم هو مظلم وحالك إذا ذلك البحر الذي يركبه المحبون! بحر لا تسكنه سوى أسماك الخوف والقلق والاتكاء المقلق على آخر، اتكاء يهددنا في كل لحظة بالسقوط. 

الحب كذلك هو المرادف الصارخ لفعل التعري؛ فأن نحب يعني أنَّ نتعرى أمام الآخر، مطالب هذا الآخر في كل مرة نتعرى نحن فيها أمامه، أن يغطي لنا هذا العراء، وأن يلملم شعثنا ويزيلُ غَبرتنا. وكلما زاد عرائنا زاد الثقل والحمل على الآخر في تغطية هذا العراء. وهنا يأتي السؤال المخيف: ماذا لو أن الآخر رفض تغطيتنا من الأساس؟ وهل بإمكان أحدهم من الأساس أن يغطينا في كل مرة نتعرى فيها مظهرين ضعفنا وحاجتنا إليه وإلى قُربه؟ ماذا لو تعرينا للآخر بمشاعرنا، ولم يغطينا؟ ماذا لو ضن علينا بالغطاء؟ ألن يكونَ الأمرُ ثقيلا ًموحشاً؟ ماذا لو أنا قلنا كل شيء وحكينا ذواتنا بأبلغ الكلمات وتخيرنا لها أحسن الصور، وأتانا رد الآخر ضبابياً باهتاً، ألن تصير مأساة؟ أتضمن لي ألا أسقط حينها في الهاوية؟ – هاوية التاريخ وهاوية الذكرى -.

الحب كتجلٍ موحش لأكثر مشاعر البشرية تجذراً في كينوناتنا، الحب كتجلي للخوف. يصير الحب وبشكل ما مهربنا الدائم والأبدي. نُحب لنهرب من وحشة ذواتنا وغربتها، نبحث في كل الدروب عن آخر نتكامل فيه، يحتوي غربتنا الأبدية تلك التي تملأ الصدور؛ لكن ومع أول سقوط في الحب نسقط في نفس اللحظة في بئر الخوف، لندرك ذواتنا وقد سقطت في بئر سحيق من الخوف والخوف المقابل. خوفنا من ألا تكون مشاعرنا نحو الآخر حقيقة وصادقة، من أنه لا توجد طريقة لنتأكد من أن مشاعرنا تلك حقيقة كانت أو مزيفة، من رحيل الآخر، من رحيلنا نحن بفعل الملل وتعود المحبوب وطول صحبته، من الطريق وألا يكتمل، ومن المجهول، من تبدل قلب المحبوب، ومن أن يميل قلبه كما تتمايل وريقات الشجر. خوف في خوف يصير الحب، خوف يهدد في كل لحظة بضياع كل شيء، وهاكم نيران خوف لا تبقى ولا تزر. لنفتح أعيننا وقد صرنا في جحيم الثقل، يخنقنا حد الموت.

الحب كتجربة إنسانية هو أعلى تكثيف لمشاعر قد يشعر بها المرء في أي لحظة من حياته. واختيار الحب أو عدم اختياره هو أعقد اختيار قد يواجهه الإنسان في سنوات عمره الطويلة

كينونتنا البشرية الهشة لم ولن تقدر في أي لحظة من لحظاتها ومهما بلغت من صلابة أن تواجه هذه البراكين المشتعلة من الخوف. هذا الإعصار المدمر هو سببنا الرئيسي والذي نقدمه كتبرير لقرارتنا الطائشة والخرقاء في كل الأوقات، إنه في الحقيقة صرخة مريرة، وتعبير صارخ عن بشاعة عجزنا الإنساني عن مواجهة هذه الكثافة من الخوف الذي يقبض على الصدور. يحملنا جحيم الثقل هذا إلى التفكير في جنة الخفة. فالخفة كانت على الدوام مبتغى الإنسان منذ لحظة التأسيس الأول، خطيئة نبي الله آدم عليه السلام إنما كانت في حقيقة الأمر بحثاً عن الخفة، خفه من أوامر الإله التي تمنعه من قطف ثمار الشجرة. الخفة إذا هي ما نرنوا إليه، ونرومه جميعاً ليل نهار.

 

يدفعنا هذا البحث الحثيث عن الخفة دفعاً إلى التفكير في الخلاص من هذا الثقل. وبهذا يأتي قرار الرحيل الطائش والأخرق، يأتي قرار قطع العلاقة كرغبة جادة في العبور إلى الشاطئ الآخر، شاطئٌ لا يكون فيه الحب ولا يكون فيه الثقل، وبهذا نتخلص من الحب ومن الخوف في آن واحد. هذا لأنهما ومنذ البداية كانا مترادفين ومتصلين بحيث لا يمكن فصلهما.

لديك الآن شاطئان، شاطئ الحب ومعه الثقل، وشاطئ ليس به حب ومعه الخفة، وأنت تختار أيهما تسكن. أحسب أنا جميعاً نواجه هذا الاختيار المر في لحظة ما من حياتنا، فالحب كتجربة إنسانية هو أعلى تكثيف لمشاعر قد يشعر بها المرء في أي لحظة من حياته. واختيار الحب أو عدم اختياره هو أعقد اختيار قد يواجهه الإنسان في سنوات عمره الطويلة. وبطبيعة الحال لا يختار الجميع شاطئ الحب المثخن بالثقل، هذا لأنه ليس الجميع بقادر على تحمل ثقل الرومانسية وضريبتها واجبة الدفع. لكن شاطئ الحب لم يخل في لحظة من اللحظات من المجانين والموتورين، من يرددون مبتهجين خلف نجيب محفوظ "حبوا أو موتوا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.