شعار قسم مدونات

القراءات النقدية بين القبول والرفض

مدونات - النقد
بعض الكتَّاب ممّن يثقون في ذوق الناقد، يضعون نصوصهم الأدبية بين يديه بهدف تثمينها وتصفيتها، فالناقد حين يطّلع على العمل الأدبي قد يجد مشكلات في اللغة والأسلوب، أو أخطاء في النحو والصرف والإملاء وحتى البلاغة؛ سببها في الغالب عدم امتلاك الأدوات الفنية والتقنية الكافية، وأحيانا غياب الذوق الفنِّي في الكتابة الأدبية. كل ذلك يضطرُّ ناقدَ هذه الأيَّام إلى استخدام المواربة لتبليغ خلاصةِ رأيهِ لصاحبِ النَّص، تفاديا لأي مساسٍ بمشاعرِه المرهفة (على حد قوله!) أو الحطِّ من قدره؛ بتقديم القراءة النقدية تنجيما على شكل ملاحظات طفيفة.. لأنَّ تقديم الانتقادات دفعة واحدة مدعاة لرفض الكاتب النقدَ الموجه إلى نصه بالكليَّة!
النقد.. الكابوس المخيف:
راجت في العقود المتأخرة فكرة مغلوطة بالأساس عن دورِ النقد ومهمتِه في خدمة الأدب وتطوير أساليبه وتحسين أجناسه وترقيتِها؛ بأنَّه عملية غايتها الهجوم على الكاتب والانتقام منه بالحطِّ من قيمة ما كتَبَ. وواكبَ انتشارَ مثلِ هذه النظرةِ السوداويةِ إزاء النقد؛ ظهورُ مصطلحاتٍ مثل "سلطة النص"، و"موت الكاتب"… إيذانا بانقلاب جذري على المدارس القديمة للنقد الأدبي التي تسحبُ البساط من تحت الناقد لتفرشه تحت قدمي الكاتب، بل ولتمكِّن للكاتب وتضعه حيثما شاء، مهما كان مستوى كتابته، وكيفما استقر أسلوبه ولغته وإبداعه الفنِّي!

وقد نتج عن هذه الحملات الظالمة عزوفٌ من الكتَّاب -بمختلف شرائحهم- عن عرضِ الأعمال الأدبية على ميزان النقد، أو استشارة الناقد أو قبول توجيهاته؛ اجتنابا لأيِّ صدام بينهما، وتفاديا لأيِّ رأي قد لا يخدم انتشار النص ورواجه بين جماهير القرَّاء. وقد لوحظ -غير مرة- كيف أنَّ بعض الناثرين والشعراء سفَّهوا نقَّادا راسخين، فقط لأنَّهم وجَّهوا ملاحظات في صميم اللغة أو الأسلوب أو الخط (الإملاء)!، وكان الأحرى بالمبدع المخطئ -خاصة إذا كان ناشئا- أن يُوطِّن نفسه على الاستفادة من أي ملاحظة على نصه، لا سيما إذا بدرت من ذوي الخبرة والكفاءة الأدبية والباع اللغوي الطويل؛ فمهما كانت هذه الآراءُ قاسيةً في ظاهرها، وجائرةً في بعض جوانبها، فإنَّها قسوةٌ تشِفُّ عن شعورٍ بالمسؤولية تُجاه اللغة، وجَوْرٍ يَنِمُّ عن غيرة على الأدب!

مهما قيل عن "القراءات النقدية" في الأدب ودورها الفعَّال في توجيهه وتقويمه، فإنَّها تظلُّ حلَقةً ضروريةً لاكتمال الدورة الإبداعية المتكونة من: الكاتب، والقارئ، والناقد

النقد غربال الموهبة:
عادةً، أنصافُ المبدعين، وأشباه الكتَّاب، وأطياف الأدباء والشعراء والقصَّاص هم مَن يتبرمون بالنقد على طريقة الصبيان عند حرمانهم من غرض ما، لأنهم يريدون أن يصلوا نهاية المطاف من دون زاد، وأن يبلغوا القمة بلا نصب، مشيا على القاعدة القائلة: "من ليس معي فهو ضدِّي"! ويكفي فسادا لهذه القاعدة المتهافتة تكريسها لمفهوم "التقوقع حول الذات" وعدم تقبُّل الرأي الآخر، فعند هذه الطائفة -للأسف- "كل نقد هو تجريح شخصي"، وكلُّ "مراجعة (استدراك) هي حربٌ مُغرِضَة"، و"كلُّ تحفظٍ هو عَرَضٌ لداء الغَيْرَةِ والحَسَدِ"! وكما ذكرنا آنفا أنَّ مَن يتبرَّمُ بالنقد عادة هو الكاتب المزيَّفُ، لأنَّ الكاتب الحقيقي -وإن كان في أوَّل الدرج- يسعى دائما إلى تطوير مهاراته الأدبية من خلال عرض نصوصه على غربال النقد، لمعرفة جيدها من رديئها، ثمَّ تدراكِ ما يقعُ منه من أخطاء وأغلاط وهفوات.. وهكذا حتى يبلغ هذا الكاتب الغاية من الإبداع!

الناقد في الميزان:
ما يعابُ في بعض النقَّاد أنَّهم صيَّروا "القراءات النقدية" مسرحَ عَرْضٍ للتقريظات، وساحة فرجة لإنشاد المدائح، حتى وُجِدَ فيهم من كتب في حقِّ شاعرة: "نصُّكِ جميل.. وإن لم أقرأه"! فهذا يريد الغزل لا النقد!.. ناهيك عن تلك القراءات النقدية التي لا تتجاوز في تحليلاتها "الميتو-نقدية" (أي النقد الكاذب) صفحات المقدِّمة! فمن جهة المصارحة نقول إنَّ هذا الضرب من النقاد قد أساؤوا للأدب كثيرا، برضوخهم لأهواءِ الأدباءِ ونزواتِ الشعراءِ، ونثر الزهور على مَن يستحق ومَن لا يستحق، ضاربين صفحا عن الجانب السوداوي في النصوص المعالجة، لتغدو القراءة النقدية عندئذٍ مزيجا من الإطراء والمغالطةِ والكذبِ؛ كمدائح المتنبي لكافور الإخشيدي، كمثل قوله:
ترعرعَ المَلِكُ الأستاذُ مُكتهِلاً قبل اكتِهالٍ، أديباً قبلَ تأديبِ!
مُجرَّباً فَهماً مِنْ قَبْلِ تَجرِبَةٍ مُهذَّباً كرَماً مِنْ غيرِ تهذيبِ!

تلك الأبيات التي ظاهرها المدح، وفي طيَّاتها معان قبيحة، هي أشد نكايةً من الهجاء المباشر! ليت شعري لو أنَّ هؤلاء النقَّاد قصدوا إلى "التورية" لهان الخطبُ، لكنَّهم يصنعون تقريظاتهم (الكاذبة) على علمٍ.. هل يدركون أنَّهم بهذا التصرّف الشنيع يهدمون الصرح الأدبيَّ ويسوُّونه بالأرض، ويخلقون نجوما من ضباب، تقوم على أساس رخوٍ من اللغة والأسلوب والنحو؟!

خلاصة:
مهما قيل عن "القراءات النقدية" في الأدب ودورها الفعَّال في توجيهه وتقويمه، فإنَّها تظلُّ حلَقةً ضروريةً لاكتمال الدورة الإبداعية المتكونة من: الكاتب، والقارئ، والناقد.. شاء الكاتب أم أبى! فالساحة الثقافية اليوم أحوجُ ما تكون إلى الناقد الذي يمحِّصُ الغثَّ من السمين، ويختار الجيِّد من الرديء، في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وظهور عشرات الآلاف من المدوِّنين والكتَّاب الذين انتشروا انتشار النار في الهشيم.. فهل نحن مستعدون حقًّا للتخلص من الناقد بصفة نهائيةٍ وتغييبه عن الساحة الأدبية؛ ليعبث العابثون في أدبنا ولغتنا بكل حرية وأريحية ما شاء لهم أن يعبَثوا؟ أم أنَّنا سنعترف بدوره الأساسي لأنَّ "من أمِنَ النقدَ أساءَ الأدب"؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.