شعار قسم مدونات

الإنسان ورحلة البحث عن المعنى

blogs تأمل

منذ أن وُجِد الإنسان على سطح الأرض لم يكن من المتخيل بالنسبة لهذا الكائن الفريد، أن يكتفي بالعيش في إطار التفصيلات اليومية المادية التي تحيط به، وأن يُمضي حياته عبر أجيال متعاقبة من دون أن يتطلع إلى تجاوز هذه الجزئيات المدركة حسيا، نحو إدراك من نوع أخر، يكون وجدانيا هذه المرة لعالم ما فوق التفصيلات بما يتجاوز الواقع المادي إلى "ما وراء" التجربة الإنسانية الواقعة في "الآن وهنا".

بالإضافة الى ذلك فإن الإنسان يعيش بمقتضى طبيعته نهباً لحاجة دائمة إلى أن يفسر لنفسه أمورا يصعب عليه تقبلها، كالخيبات والإحباط، وعدم التوافق بين عمله ونتائجه وعدم توقع سلوك البشر وانعدام اليقين، كل ذلك يشكل قلقا وجوديا معتما يتطلب أن يلقى عليه نور التفسير والفهم عن طريق طرح أسئلة عن معنى الوجود ومكان الإنسان فيه وكذا عن مصائر البشر، إنها أسئلة يمكن أن نلقيها بصيغة مباشرة على النحو التالي: لماذا نعيش؟ لماذا الموت؟ ولماذا المعاناة؟

ليست الأسطورة انفصالا عن الواقع كما يمكن أن يخطر في بال العقل العلمي، فهي بحسب فرويد وسيلة مهمة في فهم الإنسان لأنها صوغ للاوعي الإنساني الجماعي ولنزعات النفس وتخيلاتها

وفي رحلته الطويلة والشاقة لمحاولة إيجاد أجوبة عن تلك الأسئلة المقلقة مر الإنسان بمراحل تاريخية كبرى، أولها كانت مرحلة الأسطورة حيث كانت الرؤية الميثولوجية للعالم هي الأقرب إلى التجاوب مع حاجة الإنسان الأولية إلى تجاوز حالة الرعب من ذلك العالم الأصم الخالي من أي مبدأ يفسره، من هنا ظهرت الأسطورة بوظيفتها التفسيرية كعزاء عن انعدام المعنى، وللتغلب على برود عالم "غير مبال" بما يعتمل في نفس الإنسان، فشكلت بذلك التعبير المعرفي الأول عن تجربة المقدس فهماً وتصويرا من خلال حكايات توحد فيما بين الدنيوي والماورائي، وتنتج معنى يصبح له تأثير في تحديد سلوك الناس إذا ما تذوتوه شعوريا.

وليست الأسطورة انفصالا عن الواقع كما يمكن أن يخطر في بال العقل العلمي، فهي بحسب فرويد وسيلة مهمة في فهم الإنسان لأنها صوغ للاوعي الإنساني الجماعي ولنزعات النفس وتخيلاتها. ولعل أبرز ما ميز المرحلة الميثولوجية هو حضور السحر فيها كممارسة تهدف إلى التأثير في الطبيعة، من خلال شعائر تحاكي الطبيعة فتطلب منها أن تمطر أو أن تهدأ أو أن تغضب أو أن تتسبب بهلاك شخص أو جماعة، وإذا ما فشلت العملية يمكن التحجج دائما بأنها لم تُتقَن أو أن الخطأ في الفاعل ونياته.

هذا الفهم البدائي في خضم البحث عن المعنى كان متناسبا وقتئذ مع المستوى الثقافي -بمعناه الأنثروبولوجي الواسع- المتوافق مع المستوى الفكري لتلكم الحقب الغابرة، قبل أن يتم الانتقال بعدئذ إلى مرحلة أعلى على سلم التطور البشري اتسمت بدخول التجربة الدينية على الخط، فبظهور الدين وهو يمنح الإنسان إيمانا، أضحى يمنحه وسائل وآليات لمواجهة قلقه وعجزه من خلال منظومة أخلاقية كونية تشمل إضافة إلى الإيمان طقوسا في التعامل مع المقدس، ومع عالم أخر هو نقيض العادي الدنيوي، وكل ذلك جعل حياة المؤمن تحمل أملا وثقة وتسليما، ومن ثم إجابة عن سؤال المعنى بما يمنح مغزى للمصير الفردي من خلال تعليل وجودي لضرورة تقبل هذا المصير، عبر التسامي فوق الشرط المادي المباشر، هنا حقق الايمان الديني إيمانا بالخلاص وشعورا عميقا بالرضى مع ما يتضمن ذلك من إيمان بكيان فوق-طبيعي هو مصدر الوجود وبالتالي المستحق للعبادة.

وبطبيعة الحال فالحديث هنا عن الدين بشكل مجرد بعيدا عما خضع له تاريخيا من عملية مأسسة لاهوتية وسياسية، حولته لمنظومة اجتماعية يؤدي بمقتضاها وظيفة سوسيولوجية أكثر منها معنوية.

ولعل هذا التوجه الذي حاد بالدين عن سكته الفطرية الأصيلة، هو ما جعل أجوبته عن سؤال المعنى تقف على محك الشك، وذلك ما أدى إلى بروز مرحلة جديدة في البحث الإنساني عن المعنى، اتسمت هذه المرة بنزعة مادية ارتأت إحداث قطيعة كبرى مع الطابع اللاهوتي لمقاربة الكون والحياة، وبالتالي كُسرت هنا تلك العلاقة التي تربط بين مخلوق مطيع بخالق جبار وتم إعلان الإنسان ذاتا سيدة ومتحررة من أية مرجعية غيبية، من خلال تبني رؤية "عقلانية" تسعى إلى نفي الدين بما هو منظومة تعمل على اغتراب الإنسان عن ذاته، إنه منعطف أراده منظروه مرحلة يتم فيها تفسير كل شيء عن طريق التجربة الحسية، بما يعيد الإنسان إلى صلب العالم ويجعله مرجع نفسه.

إن الإنسان قد تخلص من قسم كبير من علم الأساطير لتفسير ما يحيط به، وإن لم تكن الأسطورة قد اندثرت كليا من حياته، حيث لا تخلو الديانات وبالخصوص التدين الشعبي من الأساطير

ومن هنا يُطرح التساؤل فيما إذا أفلح هذا التوجه ذي المنهجية العلمية البحتة في أن يقدم للإنسان تصورا بديلا أكثر طمأنة وأكثر صدقية عن معنى وجوده، هذا التساؤل يجرنا إلى تساؤل آخر وهو: عندما نفصل الدنيوي عن المقدس هل مقاربتنا لمفهوم المعنى تظل كما هي؟ لأن كلمة المعنى لا تعني دائما الشيء نفسه، فالمعنى بالمنطق العلمي والوضعي يختلف عن المعنى من المنظور الوجداني، والدين ليس مؤثرا باعتباره نظرية كيميائية أو فيزيائية تمتد من دقائق علم الوراثة حتى علم الفلك، بل هو مؤثر باعتباره مرجعية ذات سلطة إيمانية ومنظومة من التعويضات الرمزية والروحية التي لم تنجح أية إيديولوجيا غير دينية في الإتيان بمثل ما أتت به من أجوبة شافية ومُطمئِنة، لا شك في أن مجالات غير دينية عدة فكرية وسياسية وفنية وأخلاقية قد تطورت في العصور الحديثة بما مكن الإنسان من ولوج مساحات شاسعة من حقول المعنى إلا أنها ظلت عاجزة عن أن تقارب الوجود كغريزة تدفع إلى السعادة وكذا عن أن تلبي بما يكفي حاجة الإنسان إلى الأمل.

وفي نهاية هذه الرحلة البشرية الطويلة مع سؤال المعنى يمكننا القول بأن الإنسان قد تخلص من قسم كبير من الميثولوجيا "علم الأساطير" في تفسير ما يحيط به، وإن لم تكن الأسطورة قد اندثرت كليا من حياته، حيث لا تخلو الديانات وبالخصوص التدين الشعبي من عناصر الميثولوجيا، كما ويمكن القول بأن الأسطورة تقتحم حتى نمط الوعي العلمي حين تدفعه الرغبة في التفسير إلى زرع معان في الواقع المادي، كل هذه المعطيات تجعل سؤال المعنى لغزا وإشكالية تجتاز عصورا بأكملها، تتبدل وتتكيف مع تقلبات المراحل التاريخية، وتستمر كشرط للوجود الإنساني في تماه تام مع الطبيعة البشرية، التي ومهما ارتقت فإنها تبقى محكومة بالنقص المتطلع نحو الكمال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.