شعار قسم مدونات

تهافت الروائيين

blogs - مكتبة
لا شك أن الأدب قِبلة الشباب الرافض لواقعه والساعي نحو عالم أفضل، ففي الأدب يجدُ الإنسان عالمه الذي طالما تمنى أنْ يعيش فيه، ولمّا كانت جودة ما يُقدم لهم هو الضامن الوحيد كي لا تنحرف عقولهم وتفسد أذواقهم، أصبح لزاماً علينا انتقاء ما نُقدمه لهم من موضوعات تُرضي شغفهم وتُخاطب عقولهم.
يَنصّبُ تركيز معظم الروائيين الشباب اليوم على السلعة الرائجة في سوق الكتاب، ونتيجة لذلك خرجت لنا عشرات الكتب المتشابهة والتي تتطابق في موضوعها ومضمونها، وأصبح الكتّاب اليوم بين مُقلدين لا يقدمون أي جديد أو مُجددين لا يقدمون ما يُفيد، وتشابهت موضوعاتهم فهي بين الحب الرومانسي والرعب والخواطر ودوواين العامية والأدب الساخر، والغريب أنّ هذه الكتب لاقت رواجاً كبيراً بين القراء، ولا ننتقد هنا أذواق القراء فالأذواق لا تُبرر وما يراه القارئ جميلاً فهو جميل، ولكن نتحدث إلى هؤلاء الكتّاب فهم صانعو هذه الأذواق.

غالباً ما يتم نقد العمل الأدبي من حيث بنائه الفني وجماله الأدبي ومدى بلاغته واللغة المستخدمة فيه، ونادراً ما يتم نقده على أساس موضوعه وفكرته الرئيسية. ووظيفة الأدب الأولى أنه يُساهم في صنع المجتمع بصنعه للإنسان مُغلِفاً ذلك الهدف بغلاف الإمتاع والجمال الفني، فهو إذاً قَيدُ ذلك، بمعنى أنه إن لم يساهم هذا العمل في بناء إنسان صالح فضرّه أكبر من نفعه، ولنأخذ بعض هذه الأعمال ونحاول أن نُبين ما لها وما عليها، وما مدى إسهامها في الهدف الأسمى للأدب.

روايات الحب وقصص الغرام وهي الأكثر رواجاً حالياً، موضوع اُستهلك منذ مئات السنين وإعادة طرحه بكثرة أفسد عن غير قصد ما يتناوله، فهي قصة الكل يعرفها، لا تخلو من الإيحاءات الجنسية، حب معقد تَشوبه الخيانة أحياناً، يصعُب تحقيقه، وإنْ تحقق في النهاية فهو خيالي ومثالي لا نلمسه في واقعنا، ومشكلته الأخرى، أن بعض هذه الأعمال تتناول الحب كغاية بحد ذاته دون أن يحمل العمل بين طياته أي دعوة لقيمة إنسانية حسنة أو خُلق كريم يرتبط بالحب، أعظم العلاقات العاطفية تحولت إلى كلمات على ورق تُباع وتُشترى.

لسنا بحاجة للهروب لعالم القصص والخيال الأفلاطونية، ولكننا بحاجة إلى فكرة جديدة تضيء لنا ظلام الواقع، بحاجة إلى صدمة عقلية تُنبهنا لغفلتنا
لسنا بحاجة للهروب لعالم القصص والخيال الأفلاطونية، ولكننا بحاجة إلى فكرة جديدة تضيء لنا ظلام الواقع، بحاجة إلى صدمة عقلية تُنبهنا لغفلتنا
 

الخواطر ويُقدم الكاتب فيه لنا تنبيها عن قضية اجتماعية أو موعظة خطرت بباله وهو نوع أدبي كالرواية والقصة القصيرة، ولكنها تحولت اليوم إلى مُجرد مشاعر مرّ بها الكاتب فنقلها بدون تفكير في فائدتها للقارئ، ولبعض كتّابها أوجه هذه الأسئلة، ماذا يُفيدني كقارئ أن أعرف خواطرك أيها الكاتب؟ هل حتماً سأمُرُ بنفس تجاربك واُعايش ما عِشته أنت من أحداث؟ وإن حدث ذلك فهل انطابعي ورَدّة فعلي تِجاهها ستكون مثلك تماماً؟ هل تدرك خطورة ما تكتبه على شخصية بعض القراء؟ ادخرها لنفسك إذن ولا تُقدمها لأحد.

وقياساً على ذلك أعمال الرعب والأدب الساخر وبمراقبة اللغة المُستخدمة فيه، وقيمة ما يقدمه كل عمل منهما، ستجد أن الحاصل صفر إن لم يكن بالسالب. عرض الواقع في أدب الخواطر والتهكم عليه في الأدب الساخر وتفصيل بعض مشاكله في الأدب الرومانسي يُمكن أن يكون مفتاحاً سحرياً للولوج لقلب القارئ ولكنه لا يمكن أن يكون الغاية والوسيلة في نفس الوقت، فما تعرضه يعرفه الجميع ولكن حلولك ومقترحاتك لهذه المشكلات هو ما لا نعرفه، إن لم يكن الأدب دواءً شافياً لمرض اجتماعي ما فهو مُخدر ومُثبط قوي المفعول.

واليوم لسنا بحاجة للهروب لعالم القصص والخيال الأفلاطونية، ولكننا بحاجة إلى فكرة جديدة تضيء لنا ظلام الواقع، بحاجة إلى صدمة عقلية تُنبهنا لغفلتنا. بإمكانك استخدام أسلوبك الأدبي الرائع لأثر قلوب قرائك ولكن لا تنسى أن تقذف فكرتك داخل عقولهم، اعرض مشاكلنا وتهكم عليها واسخر منها ولكن لا تكتف بذلك وارسل لنا رسائلك البناءة، انتقِ ما تكتب عنه فهناك ما لا يستحق قلمك وعيون قرائك، قَدِمْ سمفونيتك الجديدة واعزف لحنك الأدبي الرائع وغَرِدْ خارج السرب قليلاً ودع عنك تهافت الكتّاب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.