شعار قسم مدونات

الأخسرين أعمالا

مدونات - مسلم

يقول الله تعالى:"قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)" سورة الكهف. ربما إذا ما تحدثنا عن الخسارة في الآخرة تتشكل عندنا صورة أصحاب المعصية البينة أو بالأحرى نتوجه مباشرة إلى الجانب الشعائري الذي يتجلى في ترك الزكاة أو التخلف عن الصلاة لكن لو تبصرنا قليلا في الآية الكريمة لوجدنا أن الأمر ارتبط بالسعي والعمل، لكن كيف يصيب العامل خسارة وعمله عبادة وكيف يصيب الساعي ضلالة وهو يؤدي أمانة استخلاف الله في الأرض؟

إن الخسارة في هذه الآية الكريمة ارتبطت بالسعي ولتحديد نوعية السعي لا بد من تحديد مقوماته التي ترجحه نحو الصواب أو الخطأ. في الحقيقة يعتبر الطرح عميقا في علاقة بالسعي في الأرض والإصلاح فيها وهما معنيين متلازمين، فالسعي مرتبط بالإصلاح والتعمير والبحث في المخلوقات والموجودات والتدارس حولها ليس سعيا عبثيا ولا اعتباطيا لمجرد عمل سنحاسب عليه بل هو آية من آيات الله في النظام والدقة وتسخير الأسباب وتلازم المسببات لذلك ليس كل السعي خيرا وليس كل العمل إصلاحا وتعميرا، هذا ما أرادت الآية الكريمة تبيينه ورفع اللبس عنه، أرادنا الله أن يعلمنا دور المسؤولية والعقلانية في أعمالنا ودور العقل كأداة للتأثير ومنهج للعمل، ولو كان غير ذلك ففاقدي العقل بدورهم يسعون في الأرض وينتشرون فيها ويصيبون ويخطئون لكن تغيب إرادتهم وتغيب عقولهم فيصيبون لا إراديا ويخطئون لا إراديا وهذا ما يجعلهم لا يحاسبون ولا يسألون عن أعمالهم يوم القيامة.

إن سعينا في الدنيا وأعمالنا كلها مرتبطة بمضغة صالحة وهي القلب فإما أن نحفظها ونمنع عنها المفسدة وإما أن نسعى لإفسادها وتلويثها بالأحقاد والأمراض النفسية لتكون كالحجارة فنصبح لا نميز بين الخبيث والطيب ولا بين الحق والباطل.

لا تهجروا النفس واكسروا الجانب المتحجر فيكم وحركوا كل الرواسب التي تدفعكم نحو الاستقرار لتكونوا من الفائزين، اعتصموا بحبل الله ولا تسألوا غيره فعنده الأمر كله.
لا تهجروا النفس واكسروا الجانب المتحجر فيكم وحركوا كل الرواسب التي تدفعكم نحو الاستقرار لتكونوا من الفائزين، اعتصموا بحبل الله ولا تسألوا غيره فعنده الأمر كله.

و نرتأى هنا إلى مسألة مهمة ألا وهي مسألة التلازم بين العقل الذي يعالج الأمور ويحللها ويدرسها والقلب منبع النية الحسنة ليدفع المؤمن نحو جلب المصلحة ودرء المفسدة وبالتالي صلاح العمل بصلاح النية. ولهذا وجب الوقوف عند مسألة النية الحسنة التي منبعها القلب المؤمن والنفس الطاهرة فالإنسان يدور على نفسه الحول وهي تصارع وتكابد في سبيل تحصيل الراحة والاستقرار بين التقلبات والوهن وحالات الضعف. لا شك أن كل واحد منا قضى عامه بين الفرح والبؤس، بين البحث عن الراحة وفقدان الأمل في إيجادها، بين الانتصارات والخيبات، بين المتناقضات من الأمور وما تقابل منها.

هي سنة الحياة ونداء الاستخلاف الذي يجعلنا نسعى ونشقى في سبيل تحقيق الأهداف التي تسموا إليها نفوسنا، وعلى قدر كبر النفس وعزتها تأتي الانتصارات وتُسرُّ القلوب. لذلك وبعد كل هذه الزحمة والتقلب وجب على النفس أن تأخذ نصيبها من الطمأنينة والسلام لتتزود بالشحنة التي ستمكنها من العود بروح متجددة تتوق لنجاحات وانتصارات جديدة، هي محطة التأمل والتبصر، محطة المراجعات وتجديد البيعة مع النفس لتُحصّل حقها من الراحة ويستقيم اعوجاجها من أجل بداية جديدة ورحلة أخرى في عالم الاستخلاف.

لم يخلق الله النفوس ملوّثة ولكن خلقها طاهرة نقية لكن تلوثها واعوجاجها من النتائج الحتمية في طريق طويلة مملوءة بالشوك والمشقة، ومن دورنا أن نسعى وننتشر في الأرض مع اشتراط حفظ النفس ومعالجتها ساعة بعد ساعة ولذلك خلقنا.

إن عماد عمل الطبيب النفساني التحاور مع المريض بهدف فهم تركيبة شخصيته لمعالجة العلة التي يشكو منها ومن أسس العلاج هي الوصول إلى منطقة الأمان في نفس المريض لتحريك ما رسب فيها وتدعيم دورها لتكون مصدر الطاقة الإيجابية والاستقرار الذي سيشفي النفس من كل ما فيها، لهذا من أنجع طرق العلاج بهدف ضمان الاستقرار هي الركون إلى النفس والحديث معها وفهم التغيرات والتقلبات التي طرأت عليها والوقوف على تعقيداتها لفك معادلة استقرارها وبالتالي ضمان حسن توجهها واختيارها.

الأعسر من العمل مهما كانت درجة صعوبته هي إخلاص النية لله تعالى قبل البدء والشروع في أي حركة
الأعسر من العمل مهما كانت درجة صعوبته هي إخلاص النية لله تعالى قبل البدء والشروع في أي حركة
 

لا ريب أن النفوس تحتاج إلى كل هذه المحطات من التبصر والبحث لضمان حسن العمل بالنية الحسنة والقلب المطمئن، فالأعسر من العمل مهما كانت درجة صعوبته هي إخلاص النية لله تعالى قبل البدء والشروع في أي حركة، إن إغراءات الواقع وتقلباته اليوم تجعلنا نعيش ارتباكا يؤدي إلى اندفاع نحو التوجه بالعمل لشخص أي أن تصبح الحركة والتفكير في سبيل إرضائه ونيل شكره وثنائه وينتج عن هذا فساد النية وبالتالي فساد العمل فيتغير الأمر ليصبح لا من أجل فكرة أو مشروع بقدر ما هو بذل من أجل الحصول على ثناء شخص سيفتح لنا الطريق للتدرج في سلم القيادة الريادة وهذا يبرز خاصة في الأعمال التطوعية صلب المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ومنظمات… حيث أن الأعمال أصبحت تقوم على مبدأ " نعم ننتظر منكم جزاء وشكورا".

لقد أصبحنا نعيش فقرا في مبادئنا وفي تشبعنا بالأفكار التي نحملها والمشاريع التي نؤمن بها إذ تحولت رهينة أشخاص ورموز إذا ثبتوا ثبتنا معهم وإذا زاغوا عن الطريق اتبعناهم فأصبحنا نعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق وهذا ما نتج عن أزمة قيمية في مجتمعنا إذ أصبحنا نقدم المنفعة المادية عن المنفعة الروحية التي تؤدي إلى رضاء النفس واستقرارها حيث أصبحنا نعلي المصلحة الفردية على مصلحة الجماعة وهذا نتاج لهجرنا نفوسنا وقلوبنا وابتعادنا عن الجانب المضيء في ذات كل فرد منا، لم نعد قادرين حتى على تحمل بزوغ نور الفجر في قلوبنا لأننا تعودنا على الظلمة والعتمة وأصبحنا نستلذها.

لا تهجروا النفس واكسروا الجانب المتحجر فيكم وحركوا كل الرواسب التي تدفعكم نحو الاستقرار لتكونوا من الفائزين، اعتصموا بحبل الله ولا تسألوا غيره فعنده الأمر كله فقط خذوا بالأسباب وتوكلوا ولن تحتاجوا لفلان ليأتي ليساعدكم فيُخسركم أعمالكم.

فلنجدد البيعة مع قلوبنا ولنرفع عنها غطاء الظلام السميك لنتيح الفرصة لبزوغ فجر جديد ليُحول ظلمة النفس إلى ضياء ينتشر في الأرجاء، فلنتح الفرصة لنفوسنا لنتذوق طعم الطمأنينة وراحة الضمير وتسعد بكل عمل وحركة في سبيل الله تعالى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.