شعار قسم مدونات

التدوين.. بين ذاتية الشباب وعاجية المثقفين

blogs - writing ink
يصادف اليوم مرور عام كامل على إطلاق منصة "مدونات الجزيرة" التي شكلت انطلاقة إحيائية جديدة لمفهوم التدوين في البيئة العربية، حيث راهن كثيرون على اندثار التدوين ومفاهيمه لصالح ثقافة "الـ ١٤٠ حرفا" الخاصة بشبكات التواصل الاجتماعي، لكن النتائج أتت مغايرة تماما.

استطاعت "مدونات الجزيرة" في وقت قصير تسليط الضوء على مفهوم الكتابة الحرة غير المؤطرة سواء مهنيا أو موضوعيا، وأتاحت فرصة للشباب العربي لرسم ذواتهم عبر بوابة الجزيرة حيث انضم لها ما يقرب من ٢٢ ألف مدون من أرجاء الوطن العربي، كلهم تحركه الرغبة في أن يكون عضوا فاعلا في هذا المجتمع العربي الملون.

لكن هذا الانفتاح في بيئة التدوين الشبابي قوبل بعدة إشكاليات طرحها بعض المتخصصين ومجاميع من المثقفين الذين لم يعتادوا أن يزاحمهم في منطق القول أحد، فرأوا في المدونات مساحة "تسطيح" للقضايا التي تُناقش فيها، وإتاحة المجال لمن هم ليسوا بأهله -في نظرهم- ما حدا بتسعير بعض الحملات ضد مساحات التدوين العربية بشكل عام، وجاراهم في هذا القول قوم من التُبَّع دون تمحيص أو فهم.

التدوين إذن هو مطلق الكتابة، وهو بالتخصيص وبمفهومه الإعلامي مساحة حرة تحمل خصوصية ذاتية، يكتب فيها الشخصُ
التدوين إذن هو مطلق الكتابة، وهو بالتخصيص وبمفهومه الإعلامي مساحة حرة تحمل خصوصية ذاتية، يكتب فيها الشخصُ "العالَم" من خلال منظوره الذاتي.

وإجمال القول في هذا هو أن القوم أساؤوا فهم التدوين، وأساؤوا الدراية بمعناه وماهيته، ولذلك بنوا توقعاتهم خارج نطاق المفهوم، فضلوا السبيل في أحكامهم، ما أنتج -في نظري- خطابا شرنقيا استعلائيا، يصادر على الشباب العربي مساحات حرة يمكن أن تحتوي همومه ومشكلاته وانشغالاته التي قد لا تعجب قطاعا عاجيا من المثقفين.

التدوين إذن هو مطلق الكتابة، وهو بالتخصيص وبمفهومه الإعلامي مساحة حرة تحمل خصوصية ذاتية، يكتب فيها الشخصُ "العالَم" من خلال منظوره الذاتي، ويدون عبر الحروف كل ما يشغله من قضايا اجتماعية ونفسية وتجارب حياتية إضافة إلى الانشغالات الفكرية والأسئلة الوجودية، وليس مقتضى التدوين أبدا أن يدور حول الحدث السياسي أو الأولويات الفكرية، بل هو متمحور حول الذات أكثر من كونه حول الموضوع.

ورغم أن التدوين تم توظيفه في كثير من المعارك السياسية السابقة كمتنفس ضد الأنظمة القمعية والاستبدادية فإن محاولة حصره في هذا السياق التاريخي فقط هو إخراج له من مفهومه الشامل، والذي هو في النهاية ثورة حقيقية على أنماط الكتابة المؤطرة مهنيا أو معرفيا.

فالمدون يكتب عبر التدوين "ذاته"، ويراكم عبر توالي التدوينات ميراثا من النظر في نفسه وفي محيطه، ومع مرور الوقت تكون مدونته الشخصية مساحة ذاتية تماما، لا نتدخل في محتواها ولا مضمونها، فقط نراقب موافقتها للشروط العامة للمؤسسة، وبهذا يكون تدخلنا الطفيف.

وعليه لا يسأل المدون عن مصادر أقواله ولا منطلقاتها، ولا نحاصره بشروط مهنية كبيرة تقيد كتابته وتحولها إلى شكل آلي مؤطر، فهذا لا يليق بإطلاق العنان للذات وانشغالاتها، وتدريجيا ومع توالي النمط تتحول المدونات إلى صورة قريبة من الحقيقة لانشغالات الشباب العربي واهتماماته التي يتعالى عليها بعض المثقفين أو أشباههم.

وإذا كان الهمُ الاجتماعي المتمثل في قضايا العاطفة والزواج والعلاقة بالآخر والعلاقة بالدين، وأسئلة الشك واليقين، والبحث عن معنى في الممارسات اليومية، والنظر في العام بمنظور الخاص، والحديث بالجهر مع الذات، هي المتصدر في انشغالات المدونين، فهذا ليس مثارا للقدح والملامة، وإنما هو انعكاس صادق لما يشغل هذا القطاع من الشباب العربي.

وإن كان هذا الجيل قد واجه انتكاسات متتالية عبر تعالي الجميع على مطالبه وانشغالاته، بدءا من الانقلاب على ربيعه السياسي، والذي حمل من الهم الاجتماعي أكثر مما حمل من السياسة، فلا يجب على المثقفين وأهل الرأي أن يتشرنقوا عنه بالانكفاء على قضايا عاجية لا تشغله، وأن لا يبالغوا في احتقار ما يعتبره الشباب أسئلة واهتمامات ذات مغزى.

تشكّل المدونات أيضا مساحة وفرصة لدمج الشباب المبتدئ بأهل الخبرة والتمرس في الكتابة الذاتية، ولذلك تحرص المدونات دوما على استكتاب أهل الخبرة ممن لهم باع وسبق في تطويع القلم وامتطاء صهوته، بحيث يحدث التمازج الذي ظل دوما مستحيلا في مساحات الإعلام العربي.

وهذا الطرح يضيف مزيدا من التواضع للمتمرسين والخبراء، ويضيف مزيدا من روح التنافس والرغبة في التطور للشباب المتوسط والمبتدئ، ما يشكل مع مرور الوقت حالة جديدة لا يخطب فيها المثقف من أبراج العاج، ولا يخشى فيها الشاب من التجريب والخطأ والمحاولة.

لا تصادروا هذه المساحات على الشباب، ولا تنتظروا أن يخطب الناس ودكم من علياء الكِبر، ولكن شاركوا الشباب ساحاتهم ومساحاتهم وانشغالاتهم، وناقشوهم ووجهوهم وعلموهم وتعلموا منهم، فهذا أبقى لجذوة التغيير، وأدعى للانسجام الذي افتقدته هذه الأمة على مر السنوات. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.