شعار قسم مدونات

"البيضة والحجر" هل شاهدته حقا؟

blogs - أحمد زكي
بدون أن أقرر ذلك مسبقا، شاهدت صباح هذا اليوم فيلم "البيضة والحجر" لأول مرة منذ أن كنت تلميذة في المرحلة الابتدائية، فوجدته مختلفا تماما عما خلّفه انطباعي الأول عنه، الفيلم صادفت إعادة عرضه مرات ومرات ولكني رفضت إعادة مشاهدته وكذلك أفعل مع كل الأفلام والمسلسلات القديمة مهما بدت لي رائعة ومذهلة، لأني أجد في ذلك هدرا للوقت؛ فما دام ما شاهدناه قد عرفناه وفهمنا المغزى منه، فلا فائدة ترجى من إعادة مشاهدته.. ذاك كان رأيي.
بالتأكيد أن الإنسان يتبدل، والإنسان الذي كنته أنا أو كنته أنت في الشهر الماضي ليس هو أنا وأنت اللذان نعرفهما حاليا. ومن البديهي أن يبدو لنا ما أحببناه من قبل سخيفا تافها.. كما أنه من البديهي أن نحب حاليا أشياء لم نجد فيها من قبل أية لذة. ليس الأمر متعلقا بأذواقنا فحسب بل بمستوانا الإدراكي عامة. يحدث هذا إما لأننا حين نكبر نصبح أكثر وعيا وتزداد معارفنا بالشكل الذي يجعل ما كان غامضا بالأمس مفهوما اليوم. وإما لأن موضعنا في الحياة يتبدل، وما كنا نؤمن به في الأمس لم يعد بالنسبة إلينا من المسلّمات.

يصعب تطويع العلم من قبل الدجل لكن العكس ممكن، إلا أن المال يستطيع تطويعهما معا. المال يستطيع إخضاع الإنسان ولو امتلك العلم

هذا الفيلم الذي تابعته بمحض الصدفة، شدني فيه شيء لم يكن قد شدني حين شاهدته أول مرة وأنا في مرحلة عمرية غير هذه التي بت فيها الآن. بالنسبة إلي، كان ذلك الفيلم فيما مضى خاليا من أي جمال أو متعة: قصة مدرس يمتهن السحر عن طريق الصدفة مستغلا جهل الناس، رغبة منه في جني المال والتغلب على ظروفه الصعبة. هذا ما فهمته آنذاك وما جعلني أعتقد أني فهمت جعلني لا أعيده لولا ملل أحاط بي، جعلني أرى الأحداث بشكل مختلف. ترى كم هو عدد الأحداث والوقائع التي قرأناها في الماضي وفق منطق تبين لنا حاليا أنه غير صالح تماما؟

إنه يتعين علينا كبشر أن نعيد النظر باستمرار في كل مفاهيمنا الماضية، ونتعامل مع معطياتنا القديمة باعتبارها نهر متجدد على الدوام.. متجدد بحسب كل دقيقة تمر من عمرنا، كل تجربة نخوضها، كل استكشاف جديد. كل الأعمال (أدبية، سينمائية، فكرية..) التي تعرض علينا ونحن في إحدى مراحل العمر تتدفق منها تأويلات متعددة، سلسلة من الأضواء الملونة المتقطعة، لا يظهر تباينها إلا حينما تصير المسافة بيننا وبينها أقصر.. إن فهمنا لكل عمل إبداعي أو فكري يتغير بتغير مستوانا الثقافي والإدراكي.. وهذا الأخير يتغير على الدوام.

يحكي الفيلم قصة أستاذ فلسفة ترغمه ظروفه المادية على العيش في شقة فوق سطح عمارة متواجدة بحي شعبي، الناس هناك كلهم يؤمنون بالسحر والشعوذة، ومن سوء حظه أو حسنه أن الساكن السابق كان قد اشتهر عند أهل الحي باعتباره عرافا ممارسا للسحر ومتنبئا بخفايا الأمور.. والناس هناك بسطاء وكلهم يؤمنون بأن مشاكلهم سببها أعمال سحر ولا يفكها إلا السحر. يحاول الأستاذ المثقف أن يقنع الناس الذين يظنون أنه خليفة للعراف السابق بأنهم يعيشون في وهم كبير، لكن من يصدقه وقد بات لديهم اعتقاد راسخ أنه يرفض مساعدتهم (باعتباره عرافا) لأنهم فقراء لن يدفعوا أو لأنه يمارس هذه المهنة باعتدال شديد؟

يُدرك "المبروك" "المثقف" من خلال دراسته للفلسفة وعلم الاجتماع واحتكاكه بهذه الطبقة الهشة داخل المجتمع المصري أنه يستحيل إقناع الناس بأن مشاكلهم وليدة ظروف وأسباب تخضع للعقل والمنطق، لأنه يعي أن الإطار النظري (البرادايم) الذي يفكرون داخله لا يسمح لهم برؤية الحقيقة إلا كما يرونها في الواقع؛ فيجاريهم.. في البدء يفعل ذلك –وهو بالمناسبة طالب دكتوراه- من باب الاستكشاف والمغامرة ثم مساعدة الناس (من خلال استخدام بعض آليات علم النفس وعلم الاجتماع) وليس من باب الرغبة في تحصيل المال.. لكن باب مغارة علي بابا يفتح له، ويتدفق منه المال والثراء والشهرة.. ثم القوة.

الفيلم يوثّق ويؤكد انتصار العلم على الدجل. فالعلم يعرف كيف ينشأ الدجل وكيف يمارس تأثيره على العقول البسيطة وبالتالي هو يتملك الميكانيزمات الخاصة به وباستطاعته التأثير عليه.. لكن هل ينقلب السحر على الساحر؟

من بين الدروس التي يمنحها الفيلم أنه يصعب تطويع العلم من قبل الدجل لكن العكس ممكن، إلا أن المال يستطيع تطويعهما معا. المال يستطيع إخضاع الإنسان ولو امتلك العلم، وقد يصحو ضمير الإنسان ويكتشف أنه أصبح غارقا في العسل لكن هل الدخول إلى الحمام كالخروج منه؟

لا تترددوا في إعادة تجريب الأشياء التي جربتموها في وقت سابق ولم ترقكم.. لا تترددوا في قراءة كتب لم تحبوها، والاستماع إلى أنماط موسيقية جديدة، الإنسان كائن متجدد.. ولا تترددوا في مشاهدة هذا الفيلم. "الدجل هو اللعب الذكي بآمال وأهواء الناس" "النفس خلقت مطيعة للأوهام" مِن بين العبارات البليغة التي جاءت في الفيلم على لسان البطل أحمد زكي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.