شعار قسم مدونات

نصف ضمير

blgs - قلق

هناك حالاتٌ شاذة استثنائية لا إرادية، تغزو فكر الإنسان على حين فجأة، تناديه على فعل أشياء، وتصرّ عليه أشد الإصرار، ثم يتصرف هذا الإنسان حينها تصرفات سخيفة لا يشعر بمقدار سُخفها إلا بعد أن ترحل عنه تلك الحالة، فيرى نفسه كيف كان، وكيف تصرف، ويتذكر ماذا عمل، فإذا به يقدح لنفسه اللعنات، ويكيل لها الشتائم، ويصفها بأقبح الصفات.

وأثناء ما هو كذلك، تراه يلحظ فجأةً أنه يقسو على نفسه أكثر مما يجب أن يقسو، ويرى أنه قد بالغ في الأمر أيّما مبالغة، ثم يخبر نفسه أن الأمر يجب ألا يستحق كل هذا، ويحاول جاهداً أن يجد لها المبررات حتى يتصالح معها، لكن مع ذلك، ورغم كل هذه المحاولات، تظل هناك غصة صغيرة، صغر ذرة ميتة، تظل تثير في النفس شيئاً من السخط والحنق.
 

إن تلك الغصة الصغيرة هي ما يمكن أن نُطلق عليها "نصف ضمير"، ذلك أنها لم ترتقي لتكون ضميراً كاملاً يردع ذلك الإنسان عن تلك التصرفات السيئة من المقام الأول، ومن اللحظة الأولى لبزوغ تلك الفكرة الشاذة، ولا هي اختفت اختفاءً كاملاً حتى يتسنى له أن يتصرف كما يُملى عليه تفكيره دون أن يصب لنفسه أنواع الشتائم بعد انتهائه من تصرفاته السخيفة أيّن كانت.

اعتقدتُ سابقاً أن الضمير الحي هو ذلك اللوم والتأنيب الذي يتبع الخطيئة، كان كل تأثيره لا يتعدى لحظات ما بعد الخطيئة وحسب

والحقيقة أن تلك الغصة أسوأ ما قد يصيب الإنسان، لأنها لا تزيد على أن تبعث في نفسه الكره والاحتقار، فهي بالتأكيد لن تستطيع أن تعود بالزمن لحظة إلى الوراء ليمتنع عن فعل تلك الأفعال، ولن تستطيع أن توجد حلاً لتلك المشكلة، إنما كما قلنا تولّد شعوراً باليأس والإحباط، من الممكن أن يجعل ذلك الإنسان يُلحق الضرر بنفسه بسبب ذلك.

غاب الضمير عن "راسكولينكوف" في رواية "الجريمة والعقاب" لـ "ديستيوفسكي" عندما حدّثته نفسه بقتل المرأة العجوز ليأخذ أموالها، لكنه بعد أن أتم تهميش رأسها ورأس اختها، سيطر على تفكيره "نصف ضمير"، فأقعده في فراشه في نوبات شديدة من الإغماء، لم يكن يفيق من نوبته الأولى حتى يتذكر الجريمة البشعة التي ارتكبها لتعود عليه نوبة إغماء جديدة، وظل على هذه الحال مدةً طويلة انتهت به بالاعتراف بجريمته أمام المحقق الذي لم يكن يمتلك إلى ذلك الوقت أي دليل مادي يُدين "راسكولينكوف"، وانتقل بعدها الى سجن "سيبيريا" بفعل نصف ضميره لا بفعل التحقيقات.

اعتقدتُ سابقاً أن الضمير الحي هو ذلك اللوم والتأنيب الذي يتبع الخطيئة، وكنت أسعد عندما يراودني الشعور بالحزن والندم، لاعتقادي أنه سيساعد في الامتناع عن خطايا قادمة، غير أنه لم يكن يفعل شيء عندما يحين وقتها، وكان كل تأثيره لا يتعدى لحظات ما بعد الخطيئة وحسب، فعرفت وقتها أن هذا ليس بضمير، وإنما "نصف ضمير" وهذا ما لا نبحث عنه، وما لا نريده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.