شعار قسم مدونات

التجديد.. حلقة جديدة في الانهزام الثقافي

مدونات - إسلام البحيري
منذ الربيع العربي وما تلته من أحداث أثّرت في المنطقة لمع نجم كثير من الشخصيات في الفضائيات وعلى منصّات التواصل الاجتماعي تسعى -كما تزعم- إلى تجديد الفكر الديني وتقديم قراءة معاصرة تلائم الواقع وتنفي عن الدين الإسلامي ما علق به من شوائب الحِقَب الماضية بسبب الاجتهادات الخاطئة وتوجهات السياسة في تلك الأزمنة.

والحق أن كثيراً من هذه الشخصيات لاقت رواجاً عند فئة الشباب خاصة، لأسلوب طرحها الجديد -وليس منهجها- ولخروجها عن نمط المشايخ المتعمّم المتزمّت، ولاتّكائها على شعارات البحث الحرّ المتجرّد والإذعان للحقيقة فقط، الأمر الذي وجد صداه لدى الشباب الثائر أو المتعطش للحرية.

إلاّ أن المتابع لطرح (المجدّدين) -من أمثال إسلام البحيري ومحمد شحرور وغيرهما- لا يجد أيّ جديد فيه سوى استوديوهات برامجهم المترفة وبدلاتهم الفاخرة، ولو تأمّلنا مواضيعهم المطروقة بالبحث لوجدنا أنها تكرارٌ لشبهاتٍ قديمة كل ما تمّ تجاوزها أُعيدتْ لدائرة الضوء، وكأنّ الدين ليس فيه إلا هذه القضايا والمسائل وأنها مدخل التجديد ومُبتدؤه، فنجدهم يناقشون (حدّ الردة والرجم، وإمكانية تطبيق الحدود في زماننا، وميراث المرأة وحقوقها وقضية حجابها، وحجية السنة وقضية أهل الذمة ومفهوم المواطنة، والموقف من التراث وما شابه ذلك).

بعد نكسة 67 خفّت وطأة أنظمة العسكر على الحركة الإسلامية فعاودت نشاطها فيما عُرف بالصحوة الإسلامية، والتفّ حولها الناس ووجدوا فيها ما يلامس همومهم ويوقظ انتماءهم.

ولا أعتقد أنّ منصفاً يمنع مناقشة مثل هذه القضايا متى ما اكتمل في المناقِش آلات البحث وأدواته واستفرغ فيه الوُسع والجهد وفق ما يقتضيه  ميدان البحث وطبيعته من قواعد وأصول.

إلاّ أنّ عودةً سريعةً إلى تاريخنا القريب يوقفنا على نماذج وأمثلةٍ لا تختلف عن هذه الشخصيات في طرحها وقضاياها وفي ادّعاء دوافعها وأهدافها إلا بما يوجبه الظرف الزماني آنذاك، واللافت أن وتيرة هؤلاء (المجدّدين) ترتفع بعد كل حدث جسيم يمرّ بالأمة يوقظها ويستنهضها، فبعد سقوط الخلافة العثمانية التي هزّت العالم الإسلامي سنة 1924 بدأت الحركة الإسلامية تتنامى والدعوة لضرورة التكتل الإسلامي تتصاعد، ثمّ ما لبث أن خرج علينا علي عبد الرازق بكتابه (الإسلام وأصول الحكم) وطه حسين بكتابه (في الشعر الجاهلي) ليفتحا باباً واسعاً للعبث بثوابت الثقافة والفكر الإسلامي وحتى الانسلاخ منها تحت شعارات البحث والتجديد والإصلاح -وإن كانت هناك محاولات قبلهما أقل جرأة وصراحة-.

ولم يكن خافياً تأثر الرجلين ومن تابعهما ممن شكّل فيما بعد النخبة المثقفة – لم يكن خافياً التأثر بكتابات المستشرقين وأساليبهم، كما كان واضحاً الانبهار بالغرب وقيمه وأفكاره وثقافته وحتى أسلوب حياته، الأمر الذي نتج عنه استصغار هؤلاء وانتقاصهم لما عند قومهم من أدب وتراث وفكر، ونسبة الفضل فيما توصّل إليه السالفون في العلم إلى اليونان والإغريق والفرس والهند بما تُرجِم آنذاك.

إذاً بدأت تتشكّل هذه (النخبة) التي تنظر إلى كل ما عند الغرب بعين الإكبار والإعجاب مفتونةً بتقدمه وتتطوره وترى سبب تأخر أمتها وتخلفها هو إصرارها على أن نهضتها من دينها فتارةً تصادمت مع المتمسكين بالفكرة الإسلامية وتارةً حاولت أن تقدم قراءتها للدين من منطلقها.

في خضمّ هذا الصراع الفكري الذي أحدثه تيار هذه النخبة الجديدة، دخل العالمُ الإسلامي -خاصة العربي منه- مرحلة جديدة هي مرحلة الأنظمة العسكرية في معظم بلدانه والتي سرعان ما تصادمت مع الحركة الإسلامية وزجّت بها في السجون، وخلا الجوّ للنخبة الجديدة وتمّ الترويج لأفكار جديدة كان على رأسها القومية والتقدمية والاشتراكية، واعتُمِدت القومية بوصلةً للثقافة والفكر خاصة بعد حرب عام 1956 الذي أثمل العرب نصرُهم فيها -لو اعتبر نصراً- فسكروا بكأس القومية سكرةً لم يصحوا منها إلا بالهزيمة النكراء في نكسة 1967، والجدير بالذكر أنّ (النخبة المثقفة) في هذه المرحلة لعبت دوراً مهماً في تغييب وعي الأمّة وإغراقها في أوهام القومية والعروبة، وغيّبت الناس عن الواقع بأمجاد مصطنعة زائفة، ولم تواجه بأفكارها التقدمية العسكر الذي كان يدوس رقاب الناس ويركل كرامتهم بأحذيته، بل أنتجوا في هذه الفترة نتاجاً منفصلاً عن الواقع خاطبت فيه هذه النخبة  نفسها بأحلامها التقدمية والاشتراكية والقومية.

هذه (النخبة) فليس لأحد منهم منهج يسير عليه في بحثه سوى الانتقائية في اختيار قضاياه ومقارنتها بما عند الغرب، واستدعاء صور من تاريخ المسلمين توافق هواه.

بعد نكسة 67  خفّت وطأة أنظمة العسكر على الحركة الإسلامية فعاودت نشاطها فيما عُرف بالصحوة الإسلامية، والتفّ حولها الناس ووجدوا فيها ما يلامس همومهم ويوقظ انتماءهم لدينهم الذي خدّرته دعاوى التقدمية والقومية المنتنة، هنا استشعرت (النخبة) سعة الهوّة بينها وبين الناس ولم تجد جسراً للعودة إلا بمهاجمة التيارات الإسلامية، ولقد أسعفتها الظروف في ذلك فكان من بين التيارات الإسلامية من ورث من سوط العسكر وعذاباته في السجون قسوةً وغلظة أدته إلى سلوك مسالك العنف والشدة استغلتها هذه (النخبة) في مهاجمة الحركة الإسلامية وتشويهها، وأخذها الشطط إلى مهاجمة الإسلام وثوابته، وكان من روّاد هذه الفترة فرج فودة، وناصر حامد أبوزيد والنيهوم وغيرهم متكئين على كتابات من سبقهم من المستشرقين وتلاميذهم.

واليوم يعيد التاريخ نفسه وتبرز طبقة جديدة من هذه (النخبة) تدرك أكثر ممن سبقها قوة الخطاب الديني في الأمة ومدى تجذر الحركة الإسلامية فيها واستعصائها على الاقتلاع، فلا تملك وهي المنهزمة أمام الغرب معجبةً مفتونةً به إلا أن تدّعي محاولة إصلاح الفكر الإسلامي وتجديده وجعله أكثر مواءمة للعصر وموافقة للواقع.

وكما قلت في أول حديثي أن البحث في هذا الأمر محمود ومطلوب إذا كان ممّن توفرت فيه أهلية ذلك واكتملت عنده أدواته، وهذا أمر -كما يشهد واقع الحال- غير موجود لدى هذه (النخبة) فليس لأحد منهم منهج يسير عليه في بحثه سوى الانتقائية في اختيار قضاياه ومقارنتها بما عند الغرب، واستدعاء صور من تاريخ المسلمين توافق هواه، وتصويرها على أنها الإسلام، ثم بعد ذلك ينهي حديثه بسؤال تشكيكي يزعزع به عقائد الناس أو يقدم نموذجاً ليس فيه من روح الإسلام شيء يدعي أنه الحق والصواب، ولا هدف له من ذلك إلا تجريد الإسلام من روحه والاستهانة بثوابت الدين وتراث الأمة.

خلاصة القول: إن دعاوى التجديد والمعاصرة والتنوير ما هي إلا جرثومة تحاول اختراق نسيج الدين المتين، إلا أن مناعة هذا الدين عصية على الاختراق ولن تزيد هذه المحاولات هذا النسيج إلا قوة وتحصيناً، ولن يعود هؤلاء إلا بهزيمة أخرى تقترن بانهزامهم الثقافي المتأصّل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.