شعار قسم مدونات

أن تكون صديقاً لشهيد

blogs-شهيد
عندما يسمعُ الإنسانُ خبراً مفجعاً فإن أولَ شيء يقومُ بهِ هو الإنكار، لا إرادياً ينكُرُ ما يسمعهُ تماماً ويدخل في ما يشبهُ الغيبوبة، يغدو وكأنهُ فاقداً للوعي ثم يبدأ بالعودةِ للواقعِ تدريجياً ليستوعب ما يجري، ولخبرِ الموتِ رهبته ُالخاصة ليس كمثلِ غيره، ورغمَ أنهُ هو الشيء الوحيد المؤكد في الحياة وأن الكل متيقنٌ بأنهُ قادمٌ لا محالة إلا أن الجميعَ يُفَاجِئُهُ ذلك الخبر.

رغم الصدمة التي تشعر بها وانقباض القلب عند سماع تلك الكلمة لكن تبقى آثاره محدودة طالما أن الخبر لا يخصك، فالذي توفي ليس قريباً أو صديقاً، ولكن الرهبة تتضاعف حينما يكون هذا الخبر من نصيبك، فيمسكُ الموتُ أحدَ أشدِ المقربين إليك، حينها يحضر الأسى ويسيطر الحزن بشدة، يخيم داخلك صمتٌ كبيرٌ قبل أن يخيم على فمك وصوتك، تموت الكلمات وتتكسر الحروف على الشفاه وينطلق العقل بأسئلته اللامنطقية، وتحضر الذكريات مع ألمٍ عظيم يغزو روحك.

أن تعيش مع شخص يقاسمك طعام وشرابك ولحظات خوفك وفرحك وحزنك ثم تفقده فجأة، سوف يدفع بك حنينك لتراه في كل الأركان، ستذكره في كل الأوقات وستنهك في الأيام القادمة من حمل الأحزان لوحدك دون أن يساندك في حمله وسيفقد الأفراح طعمها دون أن يشاركك فيها، سيغدو غائباً في الحقيقة حاضراً في ذهنك دائماً.

لم أكن يوما من الأيام شجاعاً ولا بطلاً مغواراً ولكن حياة الحرب والاعتياد على الأخبار المفجعة وأغلبها أخباراً للموت ربما أورثني رباطة جأشٍ جيدة نوعا ما، أما في تلك اللحظة التي قرأت فيها ذاك الخبر تملكني بسرعة شعور عارم بالخوف والرهبة، الصدمة جعلت أنفاسي تتسابق والعرق يملأ جبيني، فقدت ساعتها كل صبري، تجردت من كل ثباتي، إنكارٌ تامٌ وإحساسٌ بالخروج عن الواقع، بحثت طويلاً عن خبرٍ ينفي ما قد رأيتُ فلم أجد إلا أخباراً تصب الزيت على النار، الكثير من الأخبار تزف عريس تلك الليلة.

أننا لا نموت دفعةً واحدةً وإنما نموت بطريقة الأجزاء، فكلما رحل صديق مات جزء وكلما غادرنا حبيب مات جزء، والآن قد فرغ قلبي من الكثير من أجزائه، رحلوا تباعاً، كل واحد منهم أخذ جزءاً من قلبي ورحل به

أول شيء يخطر في بال من يفجع بموت أحد أحبابه هو الذكريات التي جمعتهما، حينها فقط يتذكر التفاصيل ويغوص فيها بشدة، يحاول أن يتذكر كل تفاصيل ذكرياته كأنه يعيشها الآن، يَحسَبُ أن الذكريات قد تهون عليه لكنه لا يلبث إلا أن يكتشف عكس ذلك.

عمق الذكريات وطبيعة الأيام التي جمعتني به جعلتني استرجع ذكرياتٍ تحتاج لكثير من السنين لاحتوائها ولكنها كانت مجموعة في سنة أو تزيد قليلاً، كيف لتلك السنة أن تتسع لكل تلك التفاصيل؟، لم أكن لأستذكر تلك اللحظات لولا موته.

أن تكسب صديقاً في الحرب هو الشيء الأنقى في الحياة، في لحظات الحرب يتجرد كل إنسان من التصنع والتظاهر بعكس ما هو عليه حقاً، يتصرف بطبيعته الخالصة، لذلك فإن الصديق الذي تكسبه في تلك الظروف الصعبة هو غالباً سيكون صديقاً حقيقياً وأقرب لأن يكون كأنه أخٌ لك. تتدافع الذكريات في رأسي وتتقفز، كل منها أحس بأني أعيشه واقعاً أمامي، وعندما أنتهي أتذكر خبر موته فأفجع، ثم تقفز ذكرى ثانية فأسترجعها بكل تفاصيلها وأعود لأذكر الخبر فأفجع ثانية، وثالثة ورابعة وعاشرة، ذكريات حتى الإنهاك، إن لخبر الموت وقعٌ خاصٌ على القلوب قبل الآذان، يترك في القلب جروحاً أعمق من أن تشفى.

ترجل ذاك الشاب شهيداً بإذن الله، لا أدر هل أحزن على فراقه أم أفرح لنيله تلك الدرجة التي لا تعطى لكثير من الناس، أُصاب بانفصام في المشاعر وجمود كامل للأحاسيس. فراقه ترك ف قلبي مكاناً فارغاً لا يستطيع أحد أن يملأه، صدق من قال أننا لا نموت دفعةً واحدةً وإنما نموت بطريقة الأجزاء، فكلما رحل صديق مات جزء وكلما غادرنا حبيب مات جزء، والآن قد فرغ قلبي من الكثير من أجزائه، رحلوا تباعاً، كل واحد منهم أخذ جزءاً من قلبي ورحل به.

رأيته في صورته الأخيرة ملفوفاً بوشاح أبيض، متكئاً على الأرض كياسمينة دمشقية، لحيته مغبرة وعيناه مغمضتين، ابتسامة وجهه لم تغب عنه حتى في هذه اللحظات. حاولت البكاء فلم تطعني عيناي، هول المفاجأة الأولى جعلني غير قادراً على ذلك لجأت إلى صوره القديمة، رأيتها تباعاً وأمعنت النظر فيها، حينها وبشكل لا إرادي فرت أول دمعة من عيني ولحق بها الكثير، الآن حق للعين أن تدمع وللقلب أن يدمى.

إن من الأكيدِ أن علمَ الغيبِ عند الله وحده، وليس باستطاعة أي مخلوقٍ أن يمنح من يشاء شرف الشهادة وصفة الشهيد، ولكن نسأل الله تعالى أن يحتسب أولئك الذين رأينا ظاهرهم نقياً شهداء عنده ولا نزكي على الله أحداً.

الرحمةُ والغفرانُ لِرُوحِكَ الطاهرة وأَسأَلُ اللهَ العظيم أن تكونَ لي شفيعاً يومَ القيامة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.