شعار قسم مدونات

لا سامحكم الله يا أساتذتي

blogs - طالب في مكتبة
عدت من المناقشة، جلست فوق كرسي خشبي خمسيني العمر، فقد ورثته من جدي الراحل، الذي استشهد وهو يدافع عن هذا الوطن. تركه والكثير من الكتب ونظارة؛ راق لي شكلها البسيط والخيط المتدلي منها زادها رونقا ورقي.. تأملت جواز سفري الأخضر وبطاقة هويتي وحقيبة سفر؛ مركونة منذ سنة ونيف فوق الدولاب يعانقها الغبار ومسكن عنكبوت تائه بين أحشائها الفارغة. أعلنت اللهفة واللعنة على رقعتي الجغرافية. تساءلت كيف لشخص أفنى سنوات شبابه بين رحاب الكلية والكتب ليحصل على لقب دكتور في القانون الجنائي أن يعاني من هذه الوكسة الصحية الوطنية، وهذا الإهمال واللا إكثرات مجتمعي، وهو الذي كان يعتقد أن وطنه سيزفه إلى خلية علمية بها أكفاء، وسيمنح له الحاكم وساما حتى وإن كان أدنى رتبة. باء حلمه بالفشل ولم يسمع بخبر نجاحه غير والديه وإخوانه وبعض من أصدقائه المتملقين.

لماذا لم يصفق العالم لي، وأنا التي كنت أحاول الجواب عن إشكالية الجرائم الدولية بين صمت الساسة وتواطؤ المجتمع الدولي ومحل المحكمة الجنائية الدولية من الإعراب في هذا الملف. ابيضّ شعري وأنا أحلل النظام الأساسي لها -المحكمة الجنائية الدولية- وتناقض بعض من فصولها، وتلكأ المجتمع الدولي في التدخل لنصرة أشخاص ظلموا بسببها، بكيت على سوريا وصليت لبغداد وحزنت على اليمن وفزعت عندما حلمت بكابوس بورما. وكمراهقة باحثة كنت أحسب أن البحث سيلقى تشجيعا من وطني وسأَضع بصمتي العلمية في خزانة مرصعة بالكثير من الكتب المستوردة. كان حلمي مراهقا مثلي، لم يكن يخيل لي أن أغنية ما ستشغل بال الرأي العام، وتناقش في أكبر المنابر الإعلامية، وموضوع أطروحتي سيرمى به في مزبلة التاريخ الكئيبة وألتحق حينها بأًصدقائي هناك.

لا سامحكم الله يا أساتذتي.. لأنكم لم تعلمونا أن الغناء بحناجرنا المشروخة في البلاط هي عربون الوطنية. لأنكم لم تدرسونا أنه من لم يرقص فلا وطنية له.

تأملت وجه والدي الذي باع راحته ونعاسه ليشتري لي مكتبا مريحا والكثير من الكتب والملابس التي تليق بمقام طالبة للدكتوراه، ووجه أمي التي تستيقظ طيلة سبع سنوات متتالية على الساعة السادسة صباحا لتحضر لي إفطارا غنيا بالفيتامينات، تعاملني المسكينة كطفلة وأنا التي كان أقرانها يجرون ثلاثة أو أربع أبناء وراءهم، اشتدت ضيقة قفصي الصدري وغصة بين حلقي والبلعوم وذرفت خفية دمعتين، توجهت لصالة التلفزيون، وجدت الشأن المحلي والدولي يتحدثون عن القنابل الفنية ومعجزات أصواتهم ورقصاتهم الخيالية، وحركاتهم الرياضية، والتي تكون في كنهها ذات إيحاءات جنسية، وحتى المذيعة المسكينة قد لطخت وجهها كلوحة مرسومة بريشة رسام مبتدئ.

سلكت خطى القمر الصناعي المؤدي لقنوات وطني، وفجأة سمعت خبر توسيم فنانة من العيار الثقيل التي اتخذت من دبي مسكنا لها، بعدما تزوجت من رجل كان ذات يوم في أحضان أخرى غيرها. ذرفت بعدها الدمعة الثالثة وتساءلت لماذا المسؤول عني وعن ملفي لم يهنئني ولم يرسل لي وساما؟ قبلني أبي وأهدى لي سلسلة فضية كان يرتديها في معصمه الأيمن، وهي الآن بالنسبة لي أقدس وسام حصلت عليه.

بعد ثلاثة أشهر خرجت من المنزل، بعدما حجزت تذكرة الرحيل إلى دولة أخرى دون أن تعلم أمي، حزمت حقيبتي مملوءة ببعض الصور والكثير من الذكريات العائلية والطعنات التي أهداني إياها وطني، أحرقت كل الكتب وشهادة الدكتوراه والماجستير والليسانس والثانوية، وكل النتائج التي كتب لي فيها يوما ما جميع الأساتذة إنني طالبة نجيبة ومتميزة وأني فخر لهذا الوطن.

كذب علي أساتذتي، ولم يكن القانون الجنائي وجرائم الحرب هما الشغل الشاغل للمجتمع الدولي، فلا سامحكم الله لأنكم لم تعلمونا فن الرقص الراقي، لا سامحكم الله لأنكم لم تعلمونا أن الغناء بحناجرنا المشروخة في البلاط هي عربون الوطنية. لا سامحكم الله لأنكم لم تدرسونا أنه من لم يرقص فلا وطنية له. فيا أستاذي استمع إلى أقصر محاضرة أقدمها لك؛ إن زواج فنانة مغربية بخليجي هي القضية الكبرى، وصفقة نيمار هي الصفقة العظمى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.