شعار قسم مدونات

باسم تحريرك قرّرنا القضاء عليكِ!

مدونات - تحرير المرأة

"ثوري على شرقٍ يراكِ وليمةً فوقَ السرير"، هذه هيَ الدعوة الشهيرة لنزار قباني إلى المرأة العربية، وبصرف النظر عن شعر نزار وكيفية تعاطيه ونظرته للمرأة، فإنّ تلكَ العبارة السابقة بالذات تأتي لتعكس رؤية ناضجة عن المرأة ومسألة تحريرها، فهيَ في مضمونها تطلب من المرأة أن تُقيمَ ثورتها على النظرة الدونية التي يَرميها المجتمع وتأتي لتُقزّمها وتتعامل معها كجسد وكوسيلة لإشباع الشهوة وتُهمل فيها أبعادها الأخرى ككيان له عقل وفكر.

وإنّني في إطار متابعتي لبعض الأطروحات التي تأتي في مسائل تحرير المرأة لم يُمكنني سوى أن أستعجب من بعض الأطروحات التي تأتي بما يُناقض هذه الدعوة، فتركّز على مسألة تحرير المرأة الجسدي والجنسي وتُغفل كلّ الأبعاد الفكرية والعقلية الأخرى منها، ولم يُمكنني وأنا أتأمّلها سوى أن أستحضر مشهديه شخصية سُلطان في مسرحية "العيال كبرت" وهو يقول: "وسأطالب بتحرير المرأة، ثمّ القضاء على المرأة"؛ فهذه الأطروحات جميعها وإن كانت تُنادي بتحرير المرأة إلا أنّها تُركّز في تحريرها على مسألة الاحتجاب الجسدي وليس العقلي، وتدعوها إلى إطلاق ثورتها عبر سلوك طرق انحلالية تُخلّصها من احتجاب الجسد مع الإبقاء على احتجاب عقلها وفكرها.

هذه الأطروحات بمثابة دعوة ظاهرية للتحرير تحمل في طياتها نقيض دعوتها أو ردة عليها، فهي تعمل على تحرير المرأة جسدياً وظاهرياً مع الإبقاء على حالة ارتهانها الفكري والمعرفي

نعم.. إنّ المرأة وفقاً لهذه الأطروحات لا تتحرّر إلا من خلال الجسد، وعبر تحريره من حُجُب اللباس المادي وإظهاره للعيان، فهي لا تدعوها إلى إطلاق ثورتها الفكرية أو العقلية، من خلال الممارسات الثقافية كالكتابة وغيرها. فمع أنّ الكتابة هي فعل تعرية بامتياز، ويتطلِّب من المرأة أن تتمتّع بالجسارة والجرأة لكي تُقدم عليه، سيّما إذا كانت تُريد أن تمارسه لتكشف عبره عورات المجتمع المفاهيمية والفكرية التي نشأت عليها وترعرعت، مثل الفكرة الذكورية التي تَعتبر مكان المرأة المطبخ وتحصر دورها في الطبخ وإنجاب الأولاد.

 

 ومثل مصطلح "الكتابة النسائية" الذي يحضر ما أن تحضر المرأة بعقلها ككاتبة وكفاعلة في الميدان الثقافي ليقدّمها باعتبارها كائناً منقوص العقل لا يصل بمستواه الإبداعي الذي يُقدِّمه إلى مستوى الرجل، فالمرأة الكاتبة -بحسب مضامين هذا القول- لا تكتب إلا بلغة المرأة العاطفية الساذجة التي لا يربطها بالعقل والتفكير والإبداع أية علاقة؛ إلا أنّ هذه الأطروحات لا تدعوها إلى فضح هذه العورات الفكرية والمفاهيمية التي تربّت عليها بقدر ما تدعوها إلى كشف عورات جسدها، وهيَ بهذه الدعوة لا تفعل شيئاً سوى ترسيخ هذه العورات المفاهيمية والفكرية، فهيَ بتعاطيها مع المرأة كجسد تنزع عنها صفتها كإنسان مركب متعدد الأبعاد وككيان وجوهر له خصوصية وفكر وتطلعات وتختزل ذلك كلّه في نموذج دور وظيفي واحد معدّ ومسبق ومرسوم ألا وهو اعتبارها وسيلة لقضاء الشهوة وإشباعها عند الرجل.

وضمن هذا السياق، هناك مقولة رائعة للشاعرة سيلفيا بلاث تقول فيها: "هذه الأروقة مليئة نسوة يحسبنَ أنفسهنّ طيوراً"، ويُمكن اعتبار الأطروحات التي تُركّز على تحرير المرأة كجسد لا كفكر وككيان بمثابة أفضل تمثيل على هذه العبارة، فهيَ بدعوتها لتحرير المرأة في جسدها على حساب أبعادها الأخرى تعمل على سجنها فيه، لكيْ لا تعود تَلحظ في نفسها سواه، فتُهمل عقلها وإدراكها وفكرها وحواسها، وتصبح سجينة لفكرة أنها بالجسد فقط يُمكن أن تكون حرّة.

أخيرا، فيُمكن التأكيد على أنّ هذه الأطروحات ما هي إلا معيق كبير يقف في وجه دعاوى تحرير المرأة الحقة التي عليها أن تأتي فكرية أوّلاً؛ تكشف عوراتها الفكرية والمفاهيمية التي نشأت عليها وترسّخت في عقلها بالعرف والعادة، وتُخلّصها من نظرتها الدونية إلى نفسها باعتبارها جسداً لا كياناً، أما هذه الأطروحات فهي بمثابة دعوة ظاهرية للتحرير تحمل في طياتها نقيض دعوتها أو ردة عليها، فهي لا تتعامل مع المرأة كجسد فقط، بل إنّها تعمل على تحريرها جسدياً وظاهرياً مع الإبقاء على حالة ارتهانها الفكري والمعرفي، أي أنّها تستهدف تحريرها عبر اختزالها في شقها الجسدي وإيهامها بأنّ تحريرها لا يتأتى إلا من خلال نزع حجب الجسد عن نفسها، وهذه بذور دعوة فاسدة تُنبت تحريراً جسدياً أحمقاً يقضي عليها فكراً وكياناً. فهذه الأطروحات -بحسب سُلطان- تُحرّر المرأة لكنّ بالقضاء عليها!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.