شعار قسم مدونات

الإنسان الذي قتلناه لأجل حياة زائفة

blogs - طالب متعب من الدراسة
خلال الحياة، منذ صرخة الولادة الأولى نحو شهقة الموت الأخيرة، نجدُ أنفسنا مُلزمين باتّباع العديد من السلوكيات والأنماط المفروضة لأسباب متعددة، اجتماعية ودينية وغير ذلك، ونمارسها أحيانًا حدّ التقديس إلى أن يصبح العمل بها هو الأصل وما دون ذلك ليس استثناءً فقط بل قد يجعلك في خانة غير المرغوب فيهم، هكذا تعلّمنا وهكذا تربّينا ومرّرنا هذه التربية لأبنائنا وهكذا، وتبعًا لذلك أصبح الإنسان ابن عادَته، يُمارس العادة بشغف زائف يظنّه حافزًا قويا، ويتفانى في ذلك حدّ الرّضى.

عندما يصبح الإنسان ابن عادته غالبًا ما تُعمى بصيرته خارج ذلك النّمط الذي تعوّد عليه، لا ينزوي بعيدًا عن صندوقه ليراقبه من بعيد، ليراقب شكله وطبيعته، ومدى تأثيره عليه وعلى مُحيطه، لذلك يصبح الإنسان فردًا يتقبّل كل شيء دون سؤال ودون مراجعة مع النفس، يرى الحياة بمنظار واحد فقط مع جحوده بإمكانية وجود أي منظار آخر، كلّ هذا وأكثر لا يخدِم سوى من يقتاتون على دوغمائية العامّة وجهلها، على رؤيتها للواقع على أنّه أسلوب صارم يجب الالتزام به أو لن تكون لك حياة، وهؤلاء العامّة ممن يكتسبون هذه الرؤية هم أنفسهم من يبلغون المناصب، ويدرّسون في المدارس، ويسيّرون ويُفتون الأمر، ويكدحون صباح مساء ويقفون في الطّوابير الطويلة ويلعنون واقع الحال بعد ذلك، وهم من نستمرّ في "إنتاجهم" يومًا بعد آخر.

تعلّمنا مفهوم النّجاح، بعيدًا عن كل ما هو إنساني، لكي تنجح عليك أن تكون آلة تحفظ ما تُلقّن وتعود لتتقيّأه في الامتحان.

يبدو الأمر مؤلمًا أكثر حين ترى أن اتّباع العادة يقتل الإنسان، نحن نقتله بأيدينا يومًا بعد آخر، حين نُرغم طفلًا صغيرا على الذهاب للنوم في الوقت الذي كان يمارس هواية استكشاف الأشياء، حين كان يرسم بشكل عشوائي أو يحاول تركيب أشياء ويربطها بشكل منطقي، نرغمه على الذهاب للنوم بحجّة أن الوقت قد حان وأن المدرسة تنتظره غدًا، المدرسة التي هو يكره الذهاب إليها صباحًا وكأنّه في معسكر تدريبي، يذهب ليُلاقي معلّما مليئًا بقهر الحياة، ليعلّمه كيف يكون فردًا نمطيّا في المجتمع، ليعلمه كيف يكون واحدًا من القطيع، ليعلّمه كيف يفكّر كما قرّرت الكُتب المدرسية وكما تريد الوزارة والحكومة، ولا أحد سيعود ليأخذ بيدِه حين كان يرسم أو حين كان يستكشف متعة الحياة من حوله ويحاول استخراج موهبة من نفسه بشكل اعتباطي، ذلك أمر لا يصحّ في عالمِ العادة ولا يُعتبر نجاحًا، ما يصحّ هو أن تنجح على ورقة الوزارة في آخر السنة، أن تنجح في ما هو مفروض عليك، بالطريقة التي يريدها من لا يهتمّ لأمرك أصلًا ولا يريد منك سوى أن تكون إنسانًا لا يفقه شيئا من واقعه ولا يملك تفكيرًا سليما ولا يقدر على نقد شيء ولا أن يفهم حقوقه كإنسان، لقد أصبح التعليم أكبر معسكر أكاديمي لتخريج أبناء العادة، لتخريج أفواج من النمطيين الذين يفكّرون بنفس الطريقة، وأكثر من هذا، معسكرٌ لقتل ما فينا، وإحياء ما يُراد بنا فقط.

هكذا تعلّمنا مفهوم النّجاح، بعيدًا عن كل ما هو إنساني، لكي تنجح عليك أن تكون آلة تحفظ ما تُلقّن وتعود لتتقيّأه في الامتحان، أن تتخرّج من الثانوية في سن الثامنة عشرة، أن تصير مهندسًا في الثالثة والعشرين، أن تحصل على عملِ في نفس السنة وأن لا تترك فراغًا بين كل هذا ولو كُنت مكرهًا على ذلك، هذه هي طريق النجاح فقط، بعيدًا عن كلّ ما هو إنساني، أتساءل حقّا إلى أي مدًى يهتم هذا التعليم الذي يقتل الإنسان، أنّ هؤلاء الأفواج التي تأتي المدرسة يومًا بعد آخر، متفاوتة في القدرات وفي المشاكل النفسية، متباينة في المشاكل الاجتماعية والاقتصاديّة، الامتحان لا يهتم لك ولا الشهادة تهتم لأمرك، المعيار واحد بغض النّظر عمن أنت؟ أو كيف تعيش؟ نريد تخريج أجيال من الذين يعانون نفسيا ويتألّمون في صمت وهم صغار ولا أحد يأخذ بأيديهم، رفقة من يملكون دفئًا وحبّا في منازلهم، معًا، بنفس الطريقة ونفس النّمط، نريدُ الحُكم بالنجاح والرسوب على من توفيت أمّه يومًا قبل الامتحان، مع بقية المُمتَحَنين، ليكون ذلك الامتحان حاكمًا على مصيرك في المستقبل ربّما. نريد وضع معيار واحد لمن وُلد بظروف صحية صعبة مع البقية، ولا أحد سيهتمّ لأمرك من بعد، الناس يقدّسون الورقة، يحاكمونك على النتيجة الأخيرة فقط، في المدرسة وفي العمل وفي الأسرة والعائلة، لا أحد يهتم لأمرِك أو يتفهّمك على الأقل ويشعر بك، الكلّ يرى قيمَتك في حدود العادة التي رسمناها لأنفسنا، حتى ولو لم تكن مؤمنًا بها أبدا.

لكي تكون استثناءً عليكَ تحمّل أن تكون سمكةً صغيرة تقاوم تيّارًا جارفًا، وأن تحاول ما أمكنك أن تسرق قليلًا من الحياة وسط هذه اللاحياة.

أتساءل حقّا، حين تكون شخصًا عانى من ويلات الظروف النفسية القاهرة، أمضيتَ سنوات من المقاومة بداخلك، أمضيت الليالي في المستشفى لمرض عضوي، وكانت الأيّام ثقيلة على قلبك ولكنّك كافحت لأجل تجاوز كلّ هذا، وحين تذهب للبحث عن عمل تتم مُحاكمتك وليس مساءلتك فقط، عن سنوات "الفراغ" أين أمضيتها؟ ويتم الحكم عليك بأنك إنسان ربما غير صالح للعمل لأنك أمضيت سنتين بدون أي تجربة، ربما أنت إنسان غير قادر على التجاوب بشكل جيد أو ربما كسول وعاجز، أتساءل حقّا حينها.. ما هذه الحياة الزائفة؟ كيف لا يحقّ للفرد أن يمرض وأن يُعاني في واقع كله معاناة، كيف لا يمكن أن تكون لك نفس الفرص مع الآخرين فقط لأنك خاضع لقوانين الطبيعة ولأنك إنسان يمرض ويعاني ويكافح مثل جميع سكان الأرض؟ ما هذه المعايير التي تتطلّب من الإنسان أن يكون خارقًا وإلّا فهو منبوذُ غير "ناجح" في قاموس الواقع، كيف لنا أن نقتل الإنسان فقط لأن ما يصيبه هو ما يصيب الإنسان بطبعِه، وكأنّنا نحاسبه على كونِه إنسانًا؟

لكي تعيش في عالم يتحكّم فيه طغاة الاقتصاد، الذين يحرّكون طغاة السّياسة كالدّمى لأجل أن لا ينهار النظام الاقتصادي، عالمٌ يسمّي العبيد الذين يكدحون صباح مساء لأجل أن يجدو ما يأكلونه وأين ينامون فقطّ؛ موظّفين أو عمّالًا، عالمٌ تتحكّم فيه ورقة صغيرة بمصيرك ومستقبلك ونفسيتك إلى آخر يومٍ في حياتك، عالم يطلب منك أن لا تمرض وأن لا تعيش وأن لا تفعل شيئًا سوى أن تكون نمطيّا مُنتجًا تعمل كآلة وتظنّ أنك تحسن صنعًا فقط لأن أجرة الشهر التي تكفيك للأساسيات تغشي عينيك، لكي تعيش في عالم كهذا عليك أن تكون ابن العادة، ولكي تكون استثناءً عليكَ تحمّل أن تكون سمكةً صغيرة تقاوم تيّارًا جارفًا، وأن تحاول ما أمكنك أن تسرق قليلًا من الحياة وسط هذه اللاحياة، ولو على حساب تلك الأنماط التي وجدناها وستبقى إلى الأجيال القادمة.

صدقًا، ما هذه الحياة الزائفة التي لأجل أن تسير على هذا المنوال علينا أن نقتل إنسانًا وهو حيّ، أن نُميتَه قبل أن يموت، لقد نشأ هذا الكون البديع قبل ملايير السنين، ونحن نأتي إلى هذه الدنيا سنوات قليلة لا تكاد تساوي شيئًا من عمر الكون، لنطلُب من الإنسان أن يكون فردًا من القطيع أو أن لا يعيش .. الحياة مُعجزة، دعوا من وصلها يعيشُها دون تعقيدات ليكون جزءًا من هذه المعجزة العظيمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.