شعار قسم مدونات

لاجئة سورية وإمام مسجد

مدونات - سوريا

قادتني خطواتي ليل السادس والعشرين من رمضان إلى الوقوف في صف للمصلين وإلى جانبي سيدة بعباءة سوداء ووجه أبيض صبوح وعيون بالرغم من ذبولها إلا أن اخضرارها يكاد يحكي ما بتلك الروح من آلام. إلى هنا كان الوضع طبيعيا جدا، سوينا صفوفنا وغرق كل منا في ملكوته يستجدي مغفرة من الخالق وعفوا عن سيئات سنة مضت، وفي قراراه النفس طمأنينة تريح البال وتطرد الوساوس وتمني النفس بما يستهويها.

بلغ الإمام مرحلة رفع دعاء الختم وهنا رفعت أكف الضراعة إلى السماء، وتوحدت كلمة المصلين على "آمين"، إلا منها هي السيدة ذات الرداء الأسود التي بكت دون توقف وهي تردد "اللهم عليك ببشار". اقشعر بدني واغرورقت عيناني اللتان قاومتا بكاء الإمام الذي لم يفلح في هز مشاعري وإدخالي في نوبة البكاء الهستيري الذي يصيب الكثيرين ممن خلفه وهو يتلو آياته وأدعيته. نعم، تحركت مشاعري للاجئة سورية لم تجد غير الله ملاذا تشكو له ضعف حيلتها وترمي همومها عليه.

تفوقت ذات الرداء الاسود على الإمام واختطفتني منه، سرحت منه وصرت أتابع حركاتها وسكناتها وأركز سمعي لالتقاط أدعيتها، وأقول آمين مع كل مظلمة ترفعها إلى ربها، وبقدر ما تألمت لحالها، فرحت لأن الله خلق فينا ذكاء فطريا يتحرك حينما تختل الموازين، ويبكي حال المستضعفين.

دون تخطيط مسبق أمسكت يد السيدة الباكية، استغربتني في الوهلة الأولى إلا أن دهشتها تبخرت بعد أن تكلمت بلسانها، اخترت أن أحدثها بلهجتها لا بدارجتي المغربية

كان تفكيري يأخذني بعيدا من الإمام الضليع في أمور دينه ودنياه، من ذلك الوسيط بيني وبين الله، وكنت أحاول في كل مرة اعود فيها عن سهوي، أن استدرك ما فاتني وأحاول أن أغوض كباقي المصلين في البكاء، ممن يثقون في أنهم اغتسلوا من ذنوبهم مع كل دمعة تسقط. كنت حقا أجلد نفسي وألومها على سهوها، إلى أن أخذتني تلك السورية من عالمي المتضارب بين السهو والخشوع، وأكدت لي أن في داخلي روحا تبكي أمام الله كباقي المصلين، إلا أنها تبكي دون الحاجة إلى وسيط أو "كوتش" إن صح تعبيري.

ختاما لم يخذلني الإمام أيضا، فقد خصص جزءا من دعاء الختم لمن جنت عليهم السياسة وتجار الدين، ونزحوا من عالمهم الذي اعتادوه إلى بلدان أخرى بعضه فتح في وجوههم أبوابه وأخرى طاردتهم كما تطارد الفئران. ختم إمامنا الصلاة، أدرنا وجن وهنا يمنة ويسرة تسليما وسلاما على من اتبعوا الهدى، ودون تخطيط مسبق أمسكت يد السيدة الباكية، استغربتني في الوهلة الأولى إلا أن دهشتها تبخرت بعد أن تكلمت بلسانها، اخترت أن أحدثها بلهجتها لا بدارجتي المغربية، وكأنني حاولت بذلك تخفيف عبء الفهم عليها هي المثقلة بهموم تكسر القلب والظهر.

أنا: لا تبكي ستنا كل شي رح يرجع مثل الأول واحسن.
هي: الله يرضى عليكي بنتي انشالله ربنا بيفرجها عن قريب.
أنا: انشالله يا رب أنا ثقتي بالله كبيرة ورح تشوفي.
وبنبرة مرحة دعوت نفسي لبيتها في سورية الأبية قائلة: انشالله بتعزميني عندك عالبيت بسوريا قريبا، وناكل حلوان الحرية والعودة للوطن ، بس ما تنسيني.. اوعك.
هي: بابتسامة تفوح منها رائحة الطيبة: والله أحلى عزومة لعيونك بنتي، ادعيلنا بس والله يحميكن ويحمي المغرب الحبيب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.