شعار قسم مدونات

فتنة الجبل

blogs - women

عندما كنت في المرحلة الإعدادية، قال لي أخي الأكبر (لا تبرر لنفسك) في سياق نصيحته لي في أمور الدراسة، ويعني بذلك ألا أختلقَ لنفسي الأعذار عند فشلي أو تقصيري. وهو يعني أيضاً أنني أستطيع، إذا أردتُ، أن أبرر للفشل والتقصير بكل مبرر ابتداءاً من ثقب الأوزون وحركة دوران الأجرام السماوية التي تؤثر على سير دراستي مروراً بالأحداث السياسية والأزمات التي أصبحت جزءاً أصيلاً من تاريخ الوطن، وليس انتهاءاً بالمرض والأشغال الطارئة، ولكنني في كل ذلك لا أكون إلا مخادعاً لنفسي وإن انطلت خدعتي على الآخرين.

عشتُ عمراً دراسيا ً طويلاً، على هذا المبدأ حتى لقد بالغتُ في جلد الذات، وهو الطرف الآخر التبرير، ليتضح لي أن التبرير ليست مشكلة ذات بعد شخصي فقط، بل تجاوزت لتصبح خللاً فكرياً تنتج عنه معظم مشاكل عصرنا الحالي. فالتبرير للذات يتحول من مجرد فكرة خافتة في أعماق النفس إلى جرائم مكتملة الأركان، فالقاتل مثلاً يجد لنفسه المبرر ويضفي عليه هالات الرجولة والقوة والشجاعة والانتصار للحق والعِرض، والفاسد يجد لنفسه مبرراً بفساد ما حوله وربما احتجّ بظروف الحياة ليسرق أو يرتشي، ويجد ما فوق هذا وذاك مبررات أعلى تبدو في ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب، فيبطش المستبدون بالشعوب بمبررات الوطن والأمن والسمع والطاعة ودرء الفتن، فيستحلون كل حرمة و يقتحمون كل حِمَى، وهكذا تطول القائمة لتشمل كل الأخطاء الي لا يريد أصحابها الاعتراف بها حتى لو كان جزء من دواخلهم يعترف بها.

ينبغي وقف تيار المبررات، بتجاهلها وعدم الإستجابة لندائها امتثالاً لنصيحة الرسول الأعظم في حديث جبل الفرات سالف الذكر

ومما يحكى أن والياً أمر رعيته أن يملأوا حوضاً كبيراً باللّبَن في ظلام الليل، فلما طلع الصباح، كان الحوض مملوءاً بالماء، حيث وقد برّر غالبية أفراد الرعية لأنفسهم بالفقر والحاجة واعتبروا أن ليس يضر إن ملأ أحدهم القدح ماءاً بدل الّلَبَن مقابل الآخرين الذين سيملأونه لبناً، وهكذا يجد الجميع مبرراً لما يفعلونه حتى لو امتلأت الحياة كلها ماءاً لا لبناً. ومما يلفت الانتباه، ذلك الحديث المروي عن الرسول عليه الصلاة والسلام قال "لا تقوم الساعة حتى يَحِسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه، فيُقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو" وبصرف النظر عن الجدال في مثل هكذا أحاديث من حيث الرواية واختلاف الفهم والتأويل، إلا أن اللافت في الأمر أن كل فرد من المائة قد استطاع تحويل نسبة الواحد في المائة المنطقية إلى مائة في المائة بسبب رغبته الشديدة التي أعمته عن إعمال المنطق في التفكير، مما أدى إلى مقتل التسعة وتسعون واحدا ً منهم بسبب خلل تفكير بسيط قد يبدو وكأنه التبرير للذات.

ومِن التبرير أيضاً التبرير للآخرين، أفراداً كانوا أو هيئات أو جماعات، فبعين الرضا ينظر إليهم محبُهم حتى ولو أخطأوا، وبتبرير أعمالهم الخاطئة تستمر آلة الفساد في الدوران، حيث والتغاضي عنهم، رغم انتقاد غيرهم لذات الخطأ، يُفقِد المصداقية ويُعرّض المجتمع لازدواجية المعايير وفقدان العدالة، ويصدق في مثل هؤلاء المبررون القول أنهم "يبيعون دينهم بدنيا غيرهم" وهم المعنيون بالتوبيخ الشديد في الآية "ها أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا" ليصبح القانون "وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ" حتى لو كانوا من ذوي القربى أو ذوي المحبة، موازياً للقانون الآخر "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ". ومن هؤلاء من آتاه الله آياته فانسلخ منها فاتبعه الشيطان، فأصبح يبرر لكل ظلم وطغيان، وقد أخذ الله عليهم ميثاق الكتاب ليبينُنّه للناس ولا يكتمونه، فأهانوا أنفسهم بعد أن أضاعوا الحق وداهنوا الظلم بمبررات واهية تلبس أثواب العلم والفقه والورع وتتستر بأستار الدين والمصلحة وغيرها. ولا يخفى أن حُسن الظن بالآخرين صفة المؤمنين، إلا أن ذلك فيما لم يثبت من الأخطاء وما ليس عليه برهان وما ليس متعدياً بضرره إلى الآخرين، وهو الأصل في ذلك .

الضمير كائن يعيش بالتربية والتمرس وقد يحتاج أحياناً إلى انعاشه من وضع الغيبوبة، ويحتاج أيضاً إلى عوامل مساعدة لحياته وحيويته

وحيث والأمر كذلك، فالتبرير مشكلة كبيرة وعلاجها ضروري جداً. وأول خطوات العلاج هو تفعيل وضع الضمير، حيث والضمير هو الصوت الي بداخلك والذي قد يكون بُحّ من كثرة التجاهل، إن لم يكن قد دخل في غيبوبة. فأنت وحدك تعرف حقيقة نفسك حتى لو غرّك الآخرون، وضميرك هو الوحيد مَن يقضي لك أو عليك، مهما وجدتَ لنفسك المبررات، و حتى ولو وجد لك الآخرون مبررات، بل وحتى لو اسبغوا عليها لباس القانون، حيث والحق لا يضيع بسبب مبررات عجز أو تواطؤ العدالة، والحرام لا يصير حلالاً حتى لو قضى به قاضٍ بمنزلة سيد المرسلين "إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة".

والضمير كائن يعيش بالتربية والتمرس وقد يحتاج أحياناً إلى انعاشه من وضع الغيبوبة، ويحتاج أيضاً إلى عوامل مساعدة لحياته وحيويته، و قد آن الأوان أن يتّخذ القارئ قوانين عمومية للتفكير يستطيع بها أن ينجو من مهالك التفاصيل وتقلبات الأحداث، كاحترام القوانين و الخوف من الحرام حتى ولو كان مبرراً عند الآخرين و كإنصاف الآخرين والإعتراف بالخطأ وللخصم بالصواب حين يصيب، وبفردية المسئولية أمام الله في اجتناب المنهيات "عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" وبفردية المسئولية في اتباع الأوامر"لا تُكلّف إلا نفسك" وكذلك القوانين العامة التي اتفقت عليها الأمم ودعت إليها كل الأديان من صدق وعدل ونصرة مظلوم وردع الظالم وحرمة الدماء والحقوق والحريات وغيرها.

إلا أنه وفي كل الأحوال ينبغي وقف تيار المبررات، بتجاهلها وعدم الإستجابة لندائها امتثالاً لنصيحة الرسول الأعظم في حديث جبل الفرات سالف الذكر، حيث تتحدث الروايات "فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً" هكذا ببساطة، لا يأخذ منه شيئاً لينجو بحياته من هلاك محقق نسبته تسعة وتسعون بالمئة لا يراه إلا نجاحاً محضاً بسبب غشاوة البصيرة، ولينجو بروحه من تراكم حصى التبرير لتصبح جبلاً براقاً فاتناً لا يقوى على مقاومة، لعل التوقف عن التبرير أن يُنجي من الفتنة، فتنة جبل التبرير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.