إننا لو نظرنا بالمنظور الاجتماعي والأيديلوجي، سنعرف تماما أنهم راحوا ضحية الجهل الذي غطى منظوماتنا التربوية والدينية والاجتماعية لعقود طويلة، عندما أسلمناهم لعدد من الدُعاة الفارغين والعلماء الفسدة الذين رسموا لهم صورةً مغلوطة عن الإله "القاسي المعذّب الذي لا يقبل أنصاف الحلول" وأخبروهم – مثلا- أنه من الخطأ أن تُنشئ الفتاة حسابا فيسبوكيا لها، ولا يحق لها أن تبادر برفع سمَّاعة الهاتف خشية أن يسمع الرجلُ صوتَها!
لقد كبر هؤلاء الشباب فوجدوا أنفسهم في قفص المُحرّم والمنهي عنه، لقد كانوا أطفالا وكبروا فجأة ليتفاجأوا بعدد من العلماء يلاحقونهم "بسياط الفتوى" كما يلاحق الزارع حماره أكركم الله! هكذا بتشدُّدٍ مُريع في المسائل والفروع دون مراعاةٍ لروحٍ الدين وظروف الناس واختلاف الأمكنة والأزمان، هؤلاء العلماء أنفسهم اتكأوا على موروثات شرعية لم تعد صورتها القديمة تتناسب مع زماناتنا وعاداتنا وتوليفةِ العالم الجديد فصاروا ينبشون عنها في رفات التاريخ ليلبسوها للأجيال رغمًا عنهم. حيث كان الأولى أن ينظروا فيها ألف مرة ويكيِّفوها بما يتناسب مع عجلة الزمان. فنشأ الشباب في جوٍ ملغومٍ بالحذر وصار عندما يّذنب الشاب يظل شبح المعصية يلاحقه حتى يقرر الهروب من هذا الواقع، فيجد نفسه أمام صفقة مربحة بالظفر بثنتين وسبعين حوريةً بمجرد انفجاره في وجه أي مرتدٍ يراه أمامه.
لا تلوموا هؤلاء الشباب عندما تشتعل شيبة الفقر في رؤوسهم فيجدوا أنفسهم في مجتمعٍ غارق بالظلم والفساد الإداري والسفور، ويرون اكتناز المال في جيبِ بضعة من الناس، فيما تكتظ أقبية السجون بالمثقفين والمتدينين والمُمصلحين… كل ذلك باسم الله! يجب أن نعترف أننا أخطأنا عندما سلَّمنا آذان الجيل لعدد من الدعاة الذين حشروا صدورهم بالتعبئة الروحية فقط بمعزلٍ عن فقه المعايشة وحبِّ الآخر، فأصبح همُّ الشاب حياته الأخروية وتعطَّلت في ذهنه كل المفاهيم الربانية الأخرى التي نادت بالتعارف والحب والمسامحة والمعايشة واللين، لن أسرد الآيات فمعظم آيات قرآننا العظيم تتحدث في ذلك.
تلك الظروف وغيرها هي التي شحنت صدور الشباب بالغل والحقد وأشعرتهم بالاستعلاء على ما دون عِرْقهم، فلم يعد في قاموسهم شيءٌ عن التنازل في استهلاك المباح والمباح جدًا، لأجل سلامة العائلة والحي والمجتمع والدولة وأصبح لا يدور في خلدهم سوى الحلولُ الإقصائية. نعم، نحن بأيدينا ألقيناهم في بِرك الدماء وقلنا لهم: اغرفوا! عندما زرعنا أنانية العرق "المسلم بطوائفه" بعيدا عن التعايش والسِلْم الذي خلَّده الله في كتابه، وفَهْمِ الآخر على مائدة الإنسانية، فأخرجنا جيلًا يرى في نفسه أن الله لم يهدِ أحدًا سواه، وأصبح يظنّ أن الله هو مَن يريده – حاشاه – ولم يعرف معادلة الله الواضحة: "وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ".
إنه من المعروف أن "داعش" باتت منظومةَ فساد واسعة، أجل، وتشترك فيها ترساناتٌ استخباراتية وخطط ودسائس؛ لكنْ صدقوني أن البداية كانت في التعبئة الدينية والتربوية الخاطئة، ولو أُنشئ هؤلاء الشباب تنشئةً سليمة، ورأوا صورةَ الدولة المسلمة ماثلة في وجوه حكَّامهم لما تجرَّأ الأعداء إلى استغلالهم! إنني لا أبرِّئهم من فعلتهم الشنيعة؛ ولكنني أجزم أننا لو تعرضنا لِما تعرضوا له من تلك التغذيات المسمومة لارتكبنا أفظع مما ارتكبوه ربما! فلا تلوموهم ولوموا من قذفهم في أخاديد الجهل وأوقِفوا مهزلةَ داعش، بإعادة النظر في المنظومة التربوية والدينية والاجتماعية.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.