شعار قسم مدونات

عندما فصلت ابني عن المدرسة وعلمته منزليا

blogs-teach1
على غير عادة كثير من الأمهات، لا يراودني هذه الأيام شعور بالفرح لاقتراب العام الدراسي الجديد. خروج الأطفال للمدارس، قضاء ساعات طويلة بدونهم، الحرية والهدوء وفنجان القهوة الصباحي، لحظات لم أتمتع بها منذ زمن طويل، وحديث العهد بذاكرتي عامٌ من التعليم المنزلي لثلاثة أطفال، هو واحد من أهم مشاريعي في الحياة بعد نَفْسِي. 

كان اتخاذ قرار التعليم المنزلي صعب للغاية ومُحير، المسؤولية الأكاديمية الصعبة، اختيار أفضل المناهج، إقناع الأبناء بالالتزام بالخطة، التنازل عن الهدوء والمساحة الشخصية وتقليصها لحد بعيد. أن أكون الأم والصديقة والمعلمة والمربية في آن واحد، وفوق هذا أبقى أنا بكل ما بداخلي من طموحات واهتمامات وحب للذات. الخوف من إهمال زوجي ونفسي وطغيان جانب الأمومة علىّ. التنازل عن العمل المهني وتقليصه ليصبح جزئيا ومن المنزل وبقدر ما يسمح به الوقت. نظرة الآخرين وردات فعلهم السلبية أو أسئلتهم وفضولهم عن الأسباب والكيفية، والأصعب من ذلك كله، النتيجة؟ هل سأنجح حقا؟

           
هل سأنجح في تعليم ابنتي ذات الخمس أعوام القراءة والكتابة بلغتين، بجانب أسس الرياضيات وغيرها، وأن أنمي مهاراتها الاجتماعية؟ هل سأتمكن من تعليم ابني ذي الثماني سنوات كل العلوم المطلوبة منه؟ وأن أغرس فيه كل القيم اللازمة في عمره؟ أم سينتهي العام بفشل ذريع؟ كل شيء محتمل.  بكل هذه الأسئلة وغيرها بدأت عامي الدراسي مع ثلاث أطفال في المنزل، واصطلاح المنزل هنا لا يعني أنه يتوجب البقاء بين جدران البيت أثناء العملية التعليمية، ولكنه مصطلح يراد به الإشارة إلى أن المدرسة ليس لها أي سلطة أو دور أساسي في العملية التعليمية. وأنني كأم، المؤسسة التعليمية الوحيدة المسئولة عن أبنائي. 
              

الطفل بين كل هذا لا يدري من هو وماذا يريد، لم يسأل يوما عما إن رغب في دراسة الرياضيات أولاً أم اللغة، ولا يسمح له بتلبية رغباته الخاصة من أكل ولعب وركض وكلام
الطفل بين كل هذا لا يدري من هو وماذا يريد، لم يسأل يوما عما إن رغب في دراسة الرياضيات أولاً أم اللغة، ولا يسمح له بتلبية رغباته الخاصة من أكل ولعب وركض وكلام
 

قد يبدو الأمر حتى هنا وكأنني ألقي بمستقبل أبنائي نحو الهاوية، عبر مغامرة غير معروفة النتائج. لكن الحقيقة بأن استمرار أبنائي في تلقي علومهم وتربيتهم كل عام من شخص لا أعرفه كان مغامرة مكلفة أيضا.  لكل أم وأب رؤية سواء أعلنوها أم لا، هناك صورة معينة في ذهن الآباء والأمهات يقيّمون مسار أبنائهم في الحياة وفقا لها. تخرج تلك الرؤية على شكل أساليب تربوية. بالنسبة لي فإن قيمة الحرية هي معياري دائما في توجيه ذاتي وتوجيه أبنائي نحو مستقبلهم. أريدهم أن يصبحوا أحراراً أسوياء، متناسقة هويتهم وشخصيتهم ورؤاهم في الحياة. 

        
ذات يوم عاد ابني من المدرسة ليخبرني أن معلمته قد منعته من تناول الوجبة الخفيفة عقاباً لإهماله في رفع مخلفات وجباته لأكثر من مرة. عندما لمحت اعتياداً في ردة فعله، أدركت بأن هذا النظام يتعارض مع كثير من المبادئ التي أسعى لتكوينها في شخص أبنائي. ترسم المدارس للطلبة خطوطاً واضحة ومحددة لا يمكن تجاوزها، تطبع كل الطلاب بطبعة واحدة، نراها جميعا من الخارج على شكل طفل منظم، يخشى العقاب إن لم يلتزم بالقوانين، يتحدث عندما يحين دوره، ويفعل كل ما يُملى عليه، يأكل في الوقت المحدد للفسحة وبسرعة تتناسب مع طول أو قصر هذه المدة المسموحة، يلعب مع أصدقائه ويحادثهم بالقدر الذي تسمح به تلك الفرصة الضيقة. 
                
يؤدي الوظائف كما يريده الجدول، يبدأ يومه بإعلان الولاء للوطن والإخلاص له ثم يدخل الصف ليطبق مفهوم الولاء بفعل كل ما يُملى عليه بكل أدب. فإن أخطأ مرة أو مرتين أو ثلاث، أحيل للسلطة العليا في المدرسة، للمديرة التي لا يصل لمكتبها سوى المنبوذون، وإن حدث أرسلت المدرسة خطاباً للأهل، ليعلموا بأن المواطن الصغير خارج عن القانون وعليكم الحذر. يُكرّم أكثرهم التزاما وطاعة، وتحصيلا. ولا يُلتفت للمواطن الصغير كثير السؤال ولا المخطئ ولا ذي التجربة الفاشلة. 

       

كنت أعود في كل مرة لأبنائي لأخبرهم أنني أتعلم بذات القدر الذي يتعلمون به وبأنني وأنا في الثلاثين من عمري أعيد تشكيل مفاهيم عدة وأكتسب معهم مهارات لم أكتسبها من قبل

والطفل بين كل هذا لا يدري من هو وماذا يريد، لم يُسأل يوماً عما إن رغب في دراسة الرياضيات أولاً أم اللغة، ولا يسمح له بتلبية رغباته الخاصة بالأكل مثلا وقت الحاجة، عليه تأجيل جوعه لوقت الأكل المخصص، فضلاً عن احتياجات الركض واللعب والكلام والتعبير خاصة في سنينه الأولى، فلكل نشاط مهما بلغت أهميته قالب وزمن محددين. هذه المشاهدات ليست مبالغة، إنها ما نُطلق عليه جميعا النظام! النظام الذي يرُيحنا ويجعل من ابننا آلة تمشي وفقا لما نرسمه له، لأننا السلطة العليا الأدرى بمصلحته. 

            

النظام الذي يخلق منا جميعا مواطنين ذوي اتباع أعمى. منتظمين كما في التجنيد، حتى إذا ما تخرجنا من المدرسة والجامعة دخلنا في نظام جديد اسمه الوظيفة، فيها لوائح مسموح وممنوع ومواعيد دخول وخروج ومكافآت ورواتب، وفِي داخلنا شعور بأن علينا إبداء أقصى درجات الانضباط والتفاني حتى لا نخسر الوظيفة.  يُنظّر "John Taylor Gotta" وهو مدرس أمريكي متقاعد وصاحب مؤلفات تشرح خبايا النظام التعليمي في أمريكا- أن النظام التعليمي لديه دوافع معلنة وأخرى غير معلنة، وأن من أهم الدوافع غير المعلنة تطبيع المواطنين بطابع الولاء والالتزام والانضباط العالي والوعي المحدود، لكي تُخلّص الدولة نفسها من عبء المعارضة المستمرة، ولتضمن استقرارها بأقصى ما يمكن-. 

            
ومما يشير اليه "Gatto" كذلك أن النظام التعليمي يوجه المواطنين منذ مراحل التعليم الأساسية لأن يكونوا استهلاكيين، فكل العام الدراسي يدور حول الأعياد والمناسبات ذات الطابع الاستهلاكي الاقتصادي العالي كالهالوين والكريسماس وهو بالفعل ما تدور حوله الأجندة الزمنية للمدارس. وتدخل في ذلك مواضيع القراءة والتعبير والأنشطة التعليمية. مما يساهم أيضا ًفي تردي الفكر النقدي لدى الطلبة.
                    
لعام واحد أردت لأبنائي أن يأخذوا تعليمهم في بيئة من صنعهم وأن يستمعوا لصوت ذاتهم، أعطيتهم ما استطعت من حرية في اختيار كيفية الدراسة، وقبل هذا كله جاهدت نفسي في تغيير صورة التعليم النمطية التي تلقيناها جميعا لما يقارب خمسة عشر عاماً. وكنت في ذلك ما بين انجذابي لكل ما هو تقليدي ومتبع، وبين ما تمليه عليّ قناعتي ورؤيتي. فأفلحت في مرات وأخطأت في أخرى، وكنت أعود في كل مرة لأبنائي لأخبرهم أنني أتعلم بذات القدر الذي يتعلمون به وبأنني وأنا في الثلاثين من عمري أعيد تشكيل مفاهيم عدة وأكتسب معهم مهارات لم أكتسبها من قبل، في رحلة التعليم المنزلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.