شعار قسم مدونات

في الحافلات آلاف القصص والحكايات!

Blogs-Egypt

كان الملل قد بلغ مني حد الضجر حينما نظرت إلى الساعة، انها الثالثة عصراً! هذا يعني أني قضيت للآن ساعة بأكملها في انتظار امتلاء الحافلة بالركاب، تنهّدت على وقتي الضائع واسندت رأسي إلى النافذة من جديد لأسمح لعداد وقت الانتظار أن يكمل مهمته. نحن الآن في منتصف تشرين الثاني، حيث المطر قد بلغ أوجه وموسم الرمّان يلملم أغراض الرحيل بتثاقل وتململ، في حين تستعد القرية وهي مزينة لحد الترف بشبابها لاستقبال ضيفها الجديد الأكرم ألا وهو موسم الخير الأعظم، موسم الزيت "وفراط الزيتون". 

     

السماء ماطرة من جديد والنافذة تتزين بقطرات نديّة على زجاجها، يذهب عقلي لأن يتذكر كل أمثالنا الشعبية عن تشرين "فبرد تشرين يقطع المصارين واللي ما ارتوى من حليب امه يرتوي من مية تشرين"، يشتد المطر فجأة لتروي مياهه ملابسي وأوراقي بدلاً من حلقي، فلحسن حظي أن النافذة التي أجلس قربها فيها خلل وتتسرب المياه عبرها. تحتك عجلات الحافلة بالشارع الأسفلتي المبلل، معلنة عن بدء الرحلة-كما اسميها دائماً- واقتراب الفرج. اسند رأسي على الكرسي واتفحص ما حولي. أمامي خلفي وبجانبي، أناس هنا وهناك منهم من أعرفه حقّ المعرفة ومنهم من وجهه مألوفاً لي ومنهم من لا أعرفه أبداً، الجميع مشغول وإن بدا ساكناً، وللجميع عيون تروي آلاف الحكايات وإن كان اللسان صامتاً.

     

أمامي مباشرة يصطف شابان، أحدهم بلباس الجيش المبرقع وفي يده حقيبة وربطة خبز، ملامح التعب بادية وجلية على هذا الثلاثيني والذهن شارد كل الشرود، اتراه يفكّر في عمله أم أن شوقه لعائلته أخذ فكره أو لربما يفكّر في كم المال المتبقي ليسد ديونه التي أنهكت كاهله. أما الشاب الثاني، فصوت ثرثرته مع السائق حول آخر مباراة رياضية بين برشلونة وريال مدريد قد أتلف عقلي، يتضح عليه ملامح المراهقة بوجهه المليء بالبقع وبتسريحة شعره الغريبة، وما ثرثرته المزعجة إلا انعكاس لعقله الطائش النزق. 

      

من يدري كم قلب مجروح تحمل تلك الحافلة وكم من عقل تنهكه آلاف المشاكل. فكم من أم تحترق توتراً على أبنائها وهي تتركهم من أجل لقمة العيش وكم من أب عاجز على توفير هذه اللقمة على أتمّ وجه
من يدري كم قلب مجروح تحمل تلك الحافلة وكم من عقل تنهكه آلاف المشاكل. فكم من أم تحترق توتراً على أبنائها وهي تتركهم من أجل لقمة العيش وكم من أب عاجز على توفير هذه اللقمة على أتمّ وجه
           

على يميني مباشرة، ترقد عجوز سبعينية، تتأوه ألماً، وتشكي لنا جميعاً مستشفيات البلد وتشكك طبعاً في كفاءة أطبائها، وكيف أنهم لم يجدوا وللآن حلاً لآلام رقبتها وظهرها. بجانبها امرأة أخرى كنت قد سمعتها قبل الانطلاق تتحدث على الهاتف وتشكي لأختها مديرها، الذي رفض تقديم أية إجازة لهذه المسكينة تمكنها من المكوث قرب رضيعتها. إلى الخلف قليلاً، هنالك وبلا شك مجموعة من طلبة الثانوية العامّة، فكلمة "وزاري" "متوقع" "ختمت" "خصوصي" والأستاذ الفلاني لا تخلو من أي عبارة يقولونها، هذا يشكي لذلك تأخره دراسياً ليدعي الآخر بأن وضعه اسوأ وأن تأخره أكبر وينتصر بمسابقة "النكد" تلك.

        

توقف المطر لحظة تحرك الحافلة، لكن المؤسف أنه وفي اثناء سيرها كان الماء يتسرب من بعض الثقوب في أسفلها، فكلما عبرنا عن مطب أو كلما اجتزنا حفرة كان الماء يغسل حذائي ويجمد أطرافي. في لحظة ما، كسر الصمت رجل طاعن في السن، يتحدث وبعصبية محضة على الهاتف، لندرك أنه مستاء من جاره صاحب المواشي والأغنام الذي يزعجه برائحة روثها، الأمر الذي حرمه طعم النوم على حد تعبيره. وكيف أنه قدّم فيه شكوى للبلديات ليخلصونه من هذا الإزعاج نهائياً. 

        

في الحافلات آلاف الحكايات، في الحافلات مجتمع يمثلنا، بعيد كل البعد عن المثاليات وعالم الافتراضيات

أنسي كل شيء حولي وأركز ذهني في كتاب كنت قد شرعت بقراءته مسبقاً، قرأت حينها عدد لا بأس به من الصفحات لتنتشلني أخيراً كلمات أبو نورة "ذكراك ما غيبت عن خاطري ساعة، الروح لك يا ساكن، الروح نزاعة، متى الوصل قول، باجيك واسابق الساعة" كانت هذه الكلمات من إحدى أكثر أغانيه قرباً لي، اترك الكتاب وأنصت لصوته احساسه وكلماته، تلفت نظري فتاة كنت قد رأيتها قبل عدة أيام مع خالتها التي كانت تحاول إقناعها الارتباط برجل يحبها لكنه يكبرها بعشرة سنوات. كانت الفتاة تركز جلّ نظرها في الطريق وكأنها تعد البيوت واحداً تلو الاخر، أتراها قبلت بذلك الرجل أم أنها بقيت مصرّة على رأيها! من يدري بذلك غير الزمن؟ 

         

تبتلع العجلات الطريق، اقتربنا على الوصول، يصعد إلى الحافلة جماعة من العمّال المصريين، منهكين بأسمالهم البالية ووجوههم المتعبة الداكنة وأيديهم المحمّلة بأدوات البناء، تعجبني لهجتهم التي تتداخل فيها لهجتنا، غريبة ومضحكة بعض الشيء لكنها بالنسبة لي علامة مميزة وفارقة لهم.  وعلى بعد أميالٍ قليلة يصعد إلى الحافلة رجلٌ درويش، فتبتدأ بعض التصرفات والأقوال الهمجية من بعض الشبّان الذين لم يتخلوا عمر الولدنة بعد، استفزهم ذلك الدرويش بسب عائلتهم كنوع من الدفاع عن النفس وبدورهم أثاروا استفزازي جميعاً بعشائريتهم تلك. 

      

كانت هذه أحداث حافلة الثالثة والنصف، والتي حتماً تختلف عن حافلة الثانية أو الخامسة، فلكل ساعة كما لكل حافلة ناسها وهمومها وخصوصيتها. وكان هذا الذي ذكرته، جزء من الذي خمنته أنا وجزء من الذي علمته ورأيته، لكن من يدري بالباقي؟ من يدري كم قلب مجروح تحمل تلك الحافلة وكم من عقل تنهكه آلاف المشاكل. فكم من أم تحترق توتراً على أبنائها وهي تتركهم من أجل لقمة العيش وكم من أب عاجز على توفير هذه اللقمة على أتمّ وجهها لهم؟ بل وكم من فتاة حرمت الزواج أو كم من زوجين حرموا الإنجاب؟

          

الساعة الآن الرابعة مساءً، السماء ماطرة من جديد، منزلي بات ظاهراً لي الآن، أدق على النافذة بالنقود، لأدفع أجرة الركوب أخيراً وأنزل ليكمل غيري الحكاية فلربما قصتي التي لم أخبركم عنها! يخبركم اياها غيري، في حكاية أخرى تشملني كعنصر أساسي فيها. وأقول أخيراً أن في الحافلات آلاف الحكايات، في الحافلات مجتمع يمثلنا، بعيد كل البعد عن المثاليات وعالم الافتراضيات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.