شعار قسم مدونات

اضطهاد العربية الفصحى

blogs - اللغة العربية

عندما يزيد النص المكتوب على سطر ونصف السطر تصير قراءته أمرا مملا لمعظم رواد الإنترنت العرب!.. دليل ذلك صدفتي مع العربية المستخدمة لدى كثيرين منهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ذلك أن من لا يقرأ لن يكتب ولا حتى في الأحلام السعيدة، وهذا أكبر برهان على العلاقة بين ملل الرواد وعربيتهم المكتوبة.

أما تعريف "الأمّـي" فما زال عليه خلاف، ولا ندري السبب في وقت تقول عرب أقحاح إن "الذبالة" بالذال هي القمامة، و"نحنو" أي نحن، و"زهبو" و"تزكرو" على هذا النحو.. أما "الفتات" فهي الفتاة، ولفظ الجلالة يكتب "الاه" بدل الله، فيما الطامة الكبرى التي أضحكتني هي كلمة "سومى".. احزروا بالله عليكم ما هي "سومى".. فكروا جيدا ومليا قبل إتمام القراءة في "سومى…

"سومى" ليست جميلة الإغريق ولا بطلة فيلم هندي، ولا حتى بنت الجيران.. "سومى" يا أعزائي هي حرف العطف ثمّ، واردا في قصة قصيرة كاتبها يمتلك لسانا عربيا على الفيسبوك، وأخمن أن أتمكن من فهم لغات الآكاديين والسومريين والكرد ومستخدمي لغة الأوردو والحروف الهيروغليفية والمسمارية أكثر من ذلك.

أما الفصحى الفيسبوكية، فأقترح أن يتم جمعها في قاموس يطلق عليه اسم "قاموس التنابل" يشبه تلك الفئة تماما. وأكاد أجزم أن تلك الفصحى لا تؤنب ضمير كتابها، بل تؤسس قاموس حزن وخيبات لعشاق العربية الأم.

ومن يدري لعلّ أحد أولئك الفصحاء سيدعي أن العربية لا تتماشى مع العصر وتحتاج تحسينا وتحديثا، لكن ماذا عن الفاعل المنصوب والمبتدأ المجرور في كثير مما يكتب؟ هل هو التطوير المبتغى؟! ولقد تلوثت أفكاري حين عرفت أن أحد الفيسبوكيين يعاني "الثعلة" وهي فصحاه المسخ للسعلة أو السعال وترجمتها الإنكليزية (The cough) قائلا إنها "قحة"، بدل "كحة" تصيبه نتيجة التهاب القصبات!

ربما أثر المرض كثيرا في بطلنا ما جعله يتفنن في اضطهاد العربية.. كنت أود أن أعلق متمنيا له الشفاء لكني خفت ألا يفهم كلماتي في قاموس لغته العوجاء. والمشوار لا ينتهي هنا، فالكلمات الأجنبية الدخيلة تعاني أيضا، "إيديو" مثلا بدل "أوديو" و"ستوريو" بدل "ستيريو" أي أنك لن تفهم كثيرا منها مهما حاولت وهي التي أدخلت لاختصار المعاني وتبسطيها!

أما العلم الأحدث فهو "أنغلة" رواد السوشال ميديا للغة العربية، أي كتابتها بأحرف إنكليزية.. فعلا هي "أنغلة" لكن على اللغة وليس لها!.. وحظنا كبير هنا أن الجريمة لم ترتكب بحق الفصحى بل اكتفت بإهانة العاميات. وفي هذا السياق، أقترح على "مؤنغلي" التواصل الاجتماعي العربي، كتابة العربية بأحرف كورية الجنوبية، فالكوريون لديهم قسم لتدريس اللغة العربية في أهم جامعاتهم، وحان الوقت لرد الجميل!

أما الفصحى الفيسبوكية، فأقترح أن يتم جمعها في قاموس يطلق عليه اسم "قاموس التنابل" يشبه تلك الفئة تماما. وأكاد أجزم أن تلك الفصحى لا تؤنب ضمير كتابها، بل تؤسس قاموس حزن وخيبات لعشاق العربية الأم.

ولقد خمنت أيضا أن اللفظ مرهون باللهجات الدارجة، بدءا بتحويل الثاء إلى سين مرورا بالقاف التي تصير همزة أو كافا، وصولا إلى الجيم التي تلفظ غينا. لكن ذلك تغير بعد أن رفدني صديقي الفلسطيني والذي درس علم الألسن في الجزائر، برسالة تخرجه من الجامعة خصص موضوعها للبحث في لهجة أهالي مخيم اليرموك، دارسا الكسر والمزج الحاصلين في اللسانين الفلسطيني والسوري داخل المخيم الواقع جنوب دمشق.

أحدهم قال إنه قرأ القرآن الكريم مرتين خلال شهر رمضان، لكنه مازال يكتب
أحدهم قال إنه قرأ القرآن الكريم مرتين خلال شهر رمضان، لكنه مازال يكتب "الزاكرة" و"كزالك" و"هازا" بهذه الوضعيات عبر فيسبوك، ولعله نسي اقرأ أولى كلمات التنزيل.

أدركت بعد الاطلاع أسباب ألفاظ على نحو سلاجة وسلاسة لفلسطينيين في دمشق، وفسرت علميا "فلسطنة" اللهجة الشامية لدمشقيين يقطنون اليرموك، غير أني لم أتوقع يوما أن تصير الثاء ساءً في الفصحى الفيسبوكية!! وخاب تخميني حيال القاف المحرفة والجيم المثقلة، فهما تلفظان وتكتبان؛ فالقلب "كلب" والجد "غد" وهكذا دواليك…

كما أن هناك كلمات تعرب بلا وزن أو تفعيلات، والعملية تتم بشكل فجائي من الرواد ذاتهم. ويكتمل الإبداع أيضا في خلط الفصحى مع العامية بطريقة "مخلوطة البزورات".. وأما العظمة فهي أن بعض أبطال الفيسبوك قادرون على تركيب التنوين فوق نون عوض التنوين في جمع المذكر السالم.

وقد ينتابني شعور بالفخر والاعتزاز حين أرى أحدهم يطلق على نفسه صفة الشاعر كذا.. أو الصحافي الفلاني عبر الحسابات، سرعان ما يتحول إلى غبن مع أول منشور يقع عليه ناظري، فالمنشورات إما من نوعية ثقافة السطر الواحد، أو الكلام المأثور الفصيح، أو الاقتباسات من قصائد معروفة، ولا شيء يدلل على موهبة الشعر أو مهنة الصحافة، ويبدأ التعفيس اللغوي مع أول محاولة لإثبات الصفة الافتراضية.

يمكن أخذ العبرة من هنا أيضا؛ فأحدهم قال إنه قرأ القرآن الكريم مرتين خلال شهر رمضان، لكنه مازال يكتب "الزاكرة" و"كزالك" و"هازا" بهذه الوضعيات عبر فيسبوك، ولعله نسي اقرأ أولى كلمات التنزيل فكانت الكتابة كما سلف. فيسبوكي آخر يشكو فقر مترجم غوغل للعبارات والمترادفات العربية المقابلة للغات أخرى، ويصل حد اعتبارها مؤامرة على العرب، وكأن دعم المحتوى العربي في غوغل يقع على عاتق اليابانيين والألمان! كل ذلك رغم أن قراءة دروس مرحلة التعليم الإلزامي في كثير من البلاد العربية، تكفي الفيسبوكيين التنابل للحصول على حد أدنى من القدرة على الكتابة بأقل عدد ممكن من الأخطاء الإملائية، فلماذا يتفاخرون بمدارسهم والتفوق في الأيام الخوالي؟!

أدعوهم لمراجعتها فورا والكف عن تحريف فصحانا المسكينة، وأستعجلهم بترك لغات الآخرين وشأنها فهي بريئة من استخدامهم المشبوه لأحرفها في إهانة العربية، ولا ذنب للتكنولوجيا ومفكريها أبناء الحضارات في تلك الإساءات. حتى أن التنابل يضعون إعجاباتهم لاسم الصحافي وصورته الواردين على رابط مقالته التي يشاركها لصفحته، أما المحتوى فهو المنسي الأبرز يحزن الكاتب حياله ويتمنى أن تتم ترجمته إلى لغات أخرى تقرأ شعوبها مئات الكتب والمقالات سنويا.

نقسم القلة المثقفة بين متعجرفين عبدة للنظم التي تكرس التجهيل بما فيه اللغوي، وثلة صغيرة مضطهدة تسعى للتصحيح، تكمم الفئات السابقة أفواهها وتسلب حرياتها وتفشل مساعيها تزامنا مع احتلال التنابل للمشهد العام.
نقسم القلة المثقفة بين متعجرفين عبدة للنظم التي تكرس التجهيل بما فيه اللغوي، وثلة صغيرة مضطهدة تسعى للتصحيح، تكمم الفئات السابقة أفواهها وتسلب حرياتها وتفشل مساعيها تزامنا مع احتلال التنابل للمشهد العام.

هيهات منا القراءة؛ فالأزمة مركبة مع سوء التقدير وعدم احترام العقلاء وشخصنة أفكارهم وإنكار جهودهم. بل إن قليلي القراءة ومضيعي لسان اللغة صاروا أكثر جرأة على العراك السياسي والاجتماعي عبر وسائل التواصل بلا أسس أو ضوابط في سياق شعبوي مخيف. قبيحة فئة التنابل تلك، والأقبح فئة المستثقفين، وهم التنابل الأقل نشاطا؛ يعانون متلازمة "الانزعالوجيا"؛ وتتمثل برفع الخشم إلى أعلى واستحضار شخصية الواعي المتعجرف، والبقاء صامتين طوال الوقت لا يتكلمون سوى بالإشارة أو الصراخ بعد الغضب.

والحقيقة أنهم ﻻ يحسنون كي قمصانهم أو تمشيط الغرة وتقليم الشاربين، أو حتى قول جملة واحدة بلا أخطاء لغوية، ومهمتهم الوحيدة توزيع شعور الدونية على بقية التنابل، والهروب من السجالات واحتكار المعرفة عن الآخرين ظنا منهم أنها كبيرة، وهي في حقيقتها محو أمية.

وفي ظلم هو الأشد للغة من أهلها، تنقسم القلة المثقفة بين متعجرفين عبدة للنظم التي تكرس التجهيل بما فيه اللغوي، وثلة صغيرة مضطهدة تسعى للتصحيح، تكمم الفئات السابقة أفواهها وتسلب حرياتها وتفشل مساعيها تزامنا مع احتلال التنابل للمشهد العام.

الواضح أن اللغة كما التاريخ والجغرافية والآثار والثقافة والعلماء والفن؛ تهان من أبنائها في فترات الانحطاط والتناحر. وتبقى عربيتنا الفصحى في انتظار المخلّص، وإلى ذلك الحين تبت كل الأيدي التي تمسها بسوء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.