شعار قسم مدونات

هُناك بَيْتُ جِدّي

blogs - سوريا

هكذا، وللمرة الثانية عندما أفتح باب بيتي هُنا، أتلعثم ويشتعل الحنين، صبابتي تتقد، وأتكور هزيلة بائسة، أتحسر على الأيام البالية، كوكبة من المشاعر ترتجف في داخلي، أشتاق، أحنّ، ثم أغضب، ثم أتنسم الرائحة كرةً أخرى، فسرعان ما تلفني موجة تضطرب في أقاصي النبض ودانيه فتأسرني ذكريات بيتي هُناك، والتوغل في الحارات المعتقة قبل الوصول إليه.

منذُ عقدٍ وكانت رائحة بيت جدي في الشام أول ما يستقبلني بحفاوةٍ بعد رحلةِ سفرٍ طويلة متعبة، كنت أشعر أنه يبتسم لي، وأن جدرانه العريقة تحتضنني بعمق، وتلك الدرجة الأعلى من أقرانها لطالما تفاخرَت كلما تعثرتُ بها، وحين تضيق بي، وأجلسُ هائمةً مطرقة البال ذابلةً كان ياسمينه يحتويني! وما بالك بعطر شاميّ يُحيي ذبولك؟ ولك أن تتخيل جمال حضن بيت جدي، ياسمين وشام، وبدر يفترش السماء يُحيلُها نورًا، ويُصيّر الحزنَ سرورًا! رائحته كانت كقنبلة فرح، تُبعثِر المرح وتجعلكَ منبسطَ الأسارير، ويغيب عن بالك أن تستفهم سرها، فتمرُ الأعوام، وينقطع حبل وصولك لها، وتبقى أسيرًا داخلها، وما أبهاهُ من سجن!

أيا هذا البيت أحقًا تشتاق لي؟ أتذكرني، أتحنّ لتلك الطفلة التي تربعت في ساحاتك شهورًا؟ أترخي جفنك ليلًا تنتظرني في حلم لا ينقطع؟

كنتُ أتوارى عن الأنظار بين ممراته، أركن جسدي الضئيل في إحدى زواياه، كان لي عالما خاصا، هجرة نفسي إلى روحي، كان عزلتي، وقوة وجداني، كنت أتهامس مع ذراتِ هواءه، أناجيها، أستودعها أحلامي، ثم أتنشقها وأعبق خلايايَ بها، ثم أخرجُ منه عائدة إلى هنا حيث أنا الآن؛ بنكهةٍ جديدة، بسكينة تغمر الأيام، بسعادةٍ تضفي للورد نداه، وتُفْضِي البال من أرقه، وهدوء يعبق الشتاء الطويل، منتظرًة ليالٍ صيفية تملؤ الحياة حياة. ولكن هيهات! كانت تلك الليالي أخر عهدي فيه، من كان يخطر في باله أن تقول الشام المعجزة للمصيبة ها أنا ذا؟
 

بيت جدي صامدٌ يهز الحي بقوته، ولكن ياسمينه معبق بالحمرة، ساحاته تشتاق زعتر حلب، ويا لقسوة منظر نافورته وهي تمتلئ بالرصاص، أعوام وسنين عجاف، والشوق يكبر، نعم أشتاق، وأنهك قلبي الهوى والسماء باهتة، لا البدر كبدرِ الشام ولا الندى يطرق السحرَ برقةٍ كما كان! واحتدم الصيف، وتباغتني الرائحة مرة تلوَ الأخرى، وأنا أغوص في توهاني، دعني أقول: أني أغرق فلا أنا أستطيع الغوص ولا قلبي تعلم السباحة، دقت الشام بابه فحلّق ثم تحطم ياسمينها فانطفأ قلبي وها هو يغرق! ورائحةُ بيتُ جدي لا تدعني، بيدَ أنها تُوَّجِبُ الحنين، صاحبةَ أصلٍ فريدة تزورني بين الحين والأخر، تُلهبني وتحرك الشامَ فيّ كأنها تقول سأعبق أيامك ولو كنتِ بعيدة، كيف لرائحة أن تضعني تحت كل هذا السحر؟

وأُعلن أنّ بيتَ جدي هو برائحته كونٌ اخر، ومعالمه مجرة تضاهي درب التبانة بتفاصيلها، بل بعمق أكبر، وأن لا شيء قادر على أن يختزله في خلاياي التي تهتز قائلة هو أيضًا يشتاق، لحفيدته، لطفلته الشقية الهادئة. لجنونها اللامنطقي، لعبثها بياسمينه ونرجسه.

أيا هذا البيت أحقًا تشتاق لي؟ أتذكرني، أتحنّ لتلك الطفلة التي تربعت في ساحاتك شهورًا؟ أترخي جفنك ليلًا تنتظرني في حلم لا ينقطع؟ هَبْ أني عدت لك أتعاتبني على غيابي أم تأخذني في حضنك كأم رؤوم تكفيها نفحة لقاء تُطفئ به لهيب شوقها؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.