شعار قسم مدونات

ماذا يوجدُ خارج حدود مدينتي؟

blogs - gaza

كنت متحمساً جداً، جهزتُ أغراضي وانطلقتُ سيراً على الأقدام لأول مرة "حسب ذاكرة طفل" إلى البيت الجديد الذي سننتقل إليه قريباً، كانت معي أمي التي وعدتني إن سرتُ معها هذا الطريق بطوله أن تشتري لي شيئاً من "البقالة الكبيرة" التي بجوار بيتنا الجديد.

من مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين، ومن بيتٍ صغير يلتصقُ به كل المخيم، كأنه نسيجٌ لا تكادُ تجدُ فيه فراغاً بين بيتين، وسقفٌ نصفه من الصفيح أو ما نسميه نحنُ "زينكو" ونصفهُ الآخر من الأسبست، والوجهة في رحلتنا إلى ما يشبه المدينة الصغيرة التي تتكون من أبراج عالية -بالنسبة لي- متباعدة عن بعضها، قريبة من شاطئ البحر، وبيتنا أو قل شقتنا فيها هي الطابق الأعلى في أحد الأبراج.

سرتُ مع أمي يومها قبل ١٩ عاماً لمسافة ٧ كيلو متر حتى نصل إلى مشارف منطقتنا الجديدة، وكلما أصبح المخيمُ ورائي، والمدينة أمامي، وأنا أجدُ اتساعاً وهواءً وألواناً أكثر، تسحرني لافتات المحلات، والسيارات الكثيرة والشوارع الواسعة والبيوت التي تبتعدُ شيئاً فشيئاً عن بعضها البعض، وبالطبع يصبح الهواء أجمل، لأننا نقتربُ من البحر في كل خطوةٍ نخطوها.

ربما تكون المسافة بسيطة أو الانتقالة متواضعة لكنها صنعت في داخلي سعادةً ما، أستطيع أن أشعر بها إلى الآن، هي حبُ تجربة الجديد وخوض غمار هذه الحياة، الانتقال من الحياة في بيتٍ نصفه يعلو عن الأرض ١٠ سنتيمترات، ونصفه الآخر تحت الأرض، إلى بيتٍ يعلو عن الدنيا ٢٤ متراً تقريباً وهي مسافة كافية لأرى حدود قطاع غزة الصغير من كل الاتجاهات.

ربما كان لوالدي الفضل الأكبر في غرس حب الارتحال والاكتشاف في داخلي، حيث كان يتحينُ الفرص ليجوب بنا شمال غزة وجنوبها، ويأخذنا إلى أماكن جديدة في كل مرة، ويشرح لنا ويعرفنا على كل تفاصيلها، ويترك لخيالنا أن يسأل ذلك السؤال الصعب في كل مرة، إن كانت غزة فيها كل هذه الأماكن، فماذا يوجدُ خارجها؟

سؤال ساذج إن نظرت له من منظور أن أي طفلٍ في الدنيا يعرفُ بعض المعلومات البسيطة عن العالم ودوله وتنوعه، لكنه سؤالٌ عميق وكبير إن ولدت وأنت تحب الاكتشاف لكن واقع الحواجز العسكرية والأسلاك الشائكة حال بينك وبينه، فيكادُ أبناء جيلك أن يقسموا أن حافة الدنيا موجودة على أطراف المخيم، أو عند الأبراج البعيدة التي نسكنُ فيها نحن، والتي هي آخر نقطة في الدنيا وصلوا إليها في ذلك الوقت!

إن كانت غزة فيها كل هذه الأماكن، فماذا يوجدُ خارجها؟ سؤال ساذج إن نظرت له من منظور أن أي طفلٍ في الدنيا يعرفُ بعض المعلومات البسيطة عن العالم ودوله وتنوعه، لكنه سؤالٌ عميق وكبير.

لم تكن كل هذه السنوات تخلو من بعض نقاط الضوء الجميلة، التي شحنت مخيلتي دائماً وزادت في داخلي هذا الشغف، وأذكرُ منها يوم انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من غزة عام ٢٠٠٥ وجولتنا في أراضٍ شاسعة كان يسكنها المستوطنون وبالطبع حرمنا من الاقتراب منها لسنوات، وبالتأكيد لا أنسى حادثة كسر الجدار بين غزة ومصر التي سمحت لي لأول مرة في حياتي أن أخرج من غزة مع عائلتي إلى مدينة العريش المصرية وأقضي ساعات من أجمل لحظات حياتي وقتها.

في غرة أغسطس لهذا العام سيصبح عمري أربعةً وعشرين عاماً، ولا أخفيكم أنني مصابٌ ببعض الإحباط، فأمنيتي في العام الماضي كانت أن أجيب عن ذلك السؤال واكتشف بكل حواسي أي مدينةٍ خارج حدود هذه المدينة، ومع أنني كنتُ حالماً وأنا أتخيل إسطنبول وبرلين أو ربما سول أو طوكيو، أو سان فرانسيسكو ووادي السيلكون تحديداً، لكني وعلى بعد ساعات من نهاية هذا العام أشعرُ بأن الواقع قد خذلني ورمى بأحلامي عرض الحائط.

كم هو صعبٌ أن يكون شغفك في الحياة -بالإضافة إلى السفر- هو التقنية التي تثبت لك أكثر من غيرك أن هذا العالم أصبح صغيراً جداً، وفي المقابل لا تستطيع أن تستثمرها في هذه النقطة وتطوعها بأي طريقةٍ كانت، ولا تستطيع أن تسافر وتُحرَمَ ببساطة من متعة خوض غمار هذه الحياة بالطريقة التي تحبها.

لا تستطيع أن تحجز طائرة عن طريق تطبيق، ولا أن تحجز الفندق قبل فترة من سفرك لتأخذ عروضاً أكثر، ولا أن تجرب جوجل ماب عندما تتوه عن وجهتك، ولا تصدم حضارياً على الأقل! مع أنك تصدم دائماً بقتل كل أحلامك الصغيرة المبنية على أي موطئ قدمٍ خارج حدود مدينتك.

الآن وأنا أستقبل عامي هذا، أشغل نفسي بمتابعة يوتيوب لمدة ٦ ساعات أو أكثر يومياً وأنا أتابع عشرات "اليوتيوبرز" من كل أنحاء العالم وأرى مدنهم بأعينهم، أتجول في المعارض والمؤتمرات التقنية الستة الأكبر في العالم، وأرى أجمل ما في كل المدن التي تمنيتُ أن أزورها بعيون من زاروها وعدساتهم، وأجمع عنها الكثير من المعلومات، أحرص على معرفة عادات وتقاليد الشعوب كلماتهم المشهورة، وأماكنهم المفضلة التي قد أهتم بزيارتها يوماً ما.

لا أخفيكم أن جزءاً من هذا الحلم أصبح أن أكون يوتيوبر، إن استطعت يوماً ما أن أسافر إلى أي مكانٍ في العالم، لأني سأحرص وقتها أن أنقل كل الجمال الذي خلقه الله، وبعض ما عمَّرهُ الإنسان إلى غيري من الحالمين، الذين يحملون نفس الشغف، في مدينتي وغيرها من مدن العالم. 

ومع أنني ترددتُ قبل أن أكتب ما كتبت هنا، إلا أن جزءاً من أمنيتي لهذا العام هي أن أكتب مرةً أخرى عن المكان الذي زرته، في رحلةٍ ما، في مكانٍ ما!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.