شعار قسم مدونات

لماذا تلجأ الشعوب إلى النكتة السياسية؟

blogs - باسم يوسف
عرف الفيلسوف الفرنسي"هنري برجسون" النكتة بقوله: لا مضحك إلا ما هو إنساني، والنكتة هي محاولة قهر القهر.. وهتاف الصامتين.. إنها نزهة في المقهور والمكبوت والمسكوت عنه"، وعرفها عَالِم النَّفس الشَّهير فرويد بما يلي: (إنَّ النُّكتَة هي ضَرب مِن القَصد الشُّعوري والعمَلي، يَلجأ إليهِ المَرء في المُجتَمَع؛ ليعفِي نَفسه مِن أعبَاء الوَاجِبَات الثَّقيلة، ويَتحلّل مِن الحَرَج الذي يُوقعه فِيهِ الجدّ، ومُتطلّبات العَمَل…). أما رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي فيقول: "من يريد النكتة في العالم العربي فعليه ألا ينظر إلى الكاريكاتير، بل إلى الواقع السياسي العربي".
يمكن اعتبار النكتة مظهرا من مظاهر الأدب الشعبي ، ولونا من ألوان القصة القصيرة جدا، فهي مجموعة من الكلمات المتسلسلة التي قد لا تتجاوز الجملة الواحدة معتمدة أسلوب التكثيف الشديد، متضمنة بداية ونهاية تجمع بينهما حبكة حكائية قد تكون منطقية وقد تكون غير ذلك، حاملة فكرة عميقة مؤدية معنى واضحا، وقادرة على النفاذ إلى الأفئدة وخصوصا إلى الأفهام، وموجبة للضحك والانشراح وتفريج الهموم وإن بصورة مؤقتة، لما تتضمنه من عناصر المفارقة والمفاجأة والغرابة التي تسبب شعورا بالاندهاش المقترن بالمتعة والارتياح والذي يعبر عنه بالضحك، الذي يخلق لدى صاحبه شحنة إيجابية.

النكتة السياسية كالعملة النقدية لها وجهان مختلفان، بل وجهان متناقضان، فقد تعبر النكتة عن غضب منضبط من الفساد والاستبداد ومقارعة سلمية له، كما تعبر على النقيض من ذلك.

وبخصوص مصدر النكتة فهي مجهولة المؤلف ولا يمكن التحكم في مصادرها ولا في وثيرة رواجها، وبالتالي فإنها تعبر عن موقف جماعي لفئة عريضة من الناس، صيغ بلغة عامية ومفردات بسيطة ومكثفة لتصوير المفارقات التي يحبل بها المجتمع، وهي سهلة الانتشار رغم أنها وثيقة غير مدونة، تعوض إلى حد بعيد المقالات والخطب والتحليلات المتخصصة، وتعبر عن آراء ومشاعر ومواقف أصحابها دون تحديد هوياتهم، ومن ثمة عدم تعريضهم للمتابعة والإدانة. وتمثل النكتة على كل حال وسيلة من وسائل الهزل والضحك ووسيلة للترفيه عن النفس وتخليصها من همومها، وآلية للإفصاح عن الأحاسيس والأفكار المحرمة والممنوعة والمكبوتة.

ويشكل العامل السياسي أقوى الدوافع والحوافز وراء إبداع النكت وترويجها بسبب الظلم والاستبداد والقهر والتفاوت الطبقي الفاحش والقمع والعنف والمنع ومصادرة الحريات والتضييق على الرأي في الأنظمة الشمولية المستبدة، وعليه تشكل النكتة السياسية أفتك سلاح تواجه به الأغلبية المستضعفة التي لا حول لها ولا طول الأقلية القوية المستعلية، فقد تذبح النكتة دون أن تجرح لذلك يخشى العديد من السياسيين وأصحاب القرار النكتة ويحاولون تفاديها، وعلى النقيض من ذلك قد تشكل النكتة بكاء ونحيبا مغلفا بالضحك على واقع نصبو إليه ولا قدرة لنا على تحقيقه فنعيد إنتاجه في صورة هزلية وتعبير كاريكاتوري، وبذلك يتم تحويل العجز إلى قوة وتعال وسخرية من مصدر القوة والقهر والعنف المسلط على رقابنا، ويكون التعبير عن ذلك لا بالجهر ولكن بما يخفى كالترميز والإشارة والإيحاء، أو بتداولها في ما يشبه الدهاليز والأنفاق التي تستر مروجيها أو في الأماكن المغلقة والمغلفة بالحيطة والحذر والخوف والريبة والتوجس واقتناص ضحكة عابرة لا تغير من الواقع قيد فتيل.

– في وظيفة النكتة:
النكتة السياسية كالعملة النقدية لها وجهان مختلفان، بل وجهان متناقضان، فقد تعبر النكتة عن غضب منضبط من الفساد والاستبداد ومقارعة سلمية له، كما تعبر على النقيض من ذلك عن التطبيع مع الاستبداد و مساندته وإطالة حياته والتمكين له. فالنكتة السياسية في أحلك فترات الظلم والاستبداد تشكل مرآة صقيلة تعكس حالة الخمول العامة وتردي واقع الحرية وارتفاع منسوب القهر السياسي، كما تشكل صورة سلمية لمواجهة الظلم بعد ضبط الغضب والتحكم في السخط، ومحاولة إظهار الرفض والتخلص من التقوقع والسلبية والعدمية والانكفاء، كما تعبر النكتة عن وعي شعبي بفساد النخبة السياسية الحاكمة، وضرورة تغيير الأوضاع الرديئة التي يكتوي بلظاها العامة، فوظيفة النكتة في البدء كانت بث رسائل الاحتجاج، وبعدها إضحاك الناس والتواطؤ معهم لسرقة لحظات بهجة وحبور قصيرة.

خصصت المخابرات المصرية في عهد جمال عبد الناصر فرقة مخابراتية مختصة في رصد النكت المنتشرة، بغية تحديد الاتجاهات التي يسلكها تفكير الجماهير.
خصصت المخابرات المصرية في عهد جمال عبد الناصر فرقة مخابراتية مختصة في رصد النكت المنتشرة، بغية تحديد الاتجاهات التي يسلكها تفكير الجماهير.

ومما يزيد خطورة النكتة السياسية قدرتها "الخارقة" على اختراق الفئات الشعبية، وتعرية الواقع الموبوء أمامها وكشف وجهه القبيح وروحه الشريرة، فتغدو مجهرا فاضحا للسوء مبينا حقيقة الأمور ومواطن الانحراف والخلل، ويلاحظ زيادة حضور النكتة السياسية بقدر غياب حرية التعبير وتزيد بالتبعية درجة السخرية في النكتة وقتامتها، وقد تجلى ذلك خلال سنوات الجمر والرصاص.

وعيا منها بخطورة النكتة السياسية ودلالتها المباشرة على وعي الأوساط الشعبية التي تنشأ وتروج بينها، اهتمت الأنظمة الشمولية بأمرها، فقد خصصت المخابرات المصرية في عهد جمال عبد الناصر مثلا فرقة مخابراتية مختصة في رصد النكت المنتشرة في كل فترة زمنية بغية تحديد الاتجاهات التي يسلكها تفكير الجماهير، وبالتالي استباق تحركاتها من خلال اتخاذ إجراءات احترازية تفسد من خلالها مشاريع الجماهير الناقمة على تردي الأوضاع، والأكيد أن الأنظمة الاستبدادية بصفة عامة تتعامل بالمنهج نفسه مع النكتة السياسية وإن اختلفت بعض التفاصيل والجزئيات التي تفرضها خصوصيات كل نظام شمولي، وذلك بسبب إدراك هذه الأنظمة العميق لضعف الواقع الإعلامي الرسمي وتخلفه واستناده إلى الرؤية والرواية الرسميتين، وأن النكتة السياسية هي الوسيلة الإعلامية الشعبية التي تصور الحياة السياسية بمنظور متحرر ومتجرد عن الإملاء والممالأة والتبعية والتوجيه.

خلافا لوظيفتها التحسيسية التحريضية على التمسك بقيم الحرية وامتلاك الإرادة أضحت النكتة السياسية صمام أمان للأنظمة السياسية من خلال تحويلها إلى غرفة عازلة يفرغ فيها المواطن شحنات غضبه.

وفي اتجاه مختلف تماما لما سبق تتوسل الجماهير العريضة الفاقدة لقوة الإرادة ونفاذ الفعل بالنكتة السياسية، وذلك تعلقا بأهذاب خلاص مؤقت مزيف، وهروب فاضح إلى الأمام من واجب شحذ الهمم وقدح زناد العزائم، وتصحيح وعي الجماهير المنحرف الذي يجعل عرقها لغيرها، فتستحيل النكتة السياسية مسكنا للآلام التي تسببها يقظة الضمير إلى أن تتعود الشعوب على الواقع الجديد الذي لا يرتفع، فتصير النكتة بذلك بلسما وبردا وسلاما على قلاع الاستبداد الحصينة، وقوام هذا البلسم إرجاء المواجهة مع الفساد، والزيادة في جرعة التواكل، والاكتفاء بطعن الحاكم سرا وتمجيده جهرا.

وقد اتخذت الجماهير الضعيفة المسحوقة المهمومة النكتة السياسية سلاحا ضد كل مسببات العدوى بكراهية الظلم والتسلط، كما اتخذتها رفيقا حميما في دروب الاكتئاب والحرمان والمعاناة، وسكرية لا ينضب معينها لتحلية الواقع المر وأصباغا مختلفة الألوان لتجميل صورة الزمن الرديء، بعد أن كسّرت الجماهير فكها العلوي من الغيض، وعادت برأس مبطوح وجسم مقروح دون أن تحرك في بدن الطغيان قيد أنملة فآثرت هذه الجماهير الخلود إلى الراحة وعدم أكل التفاحة.

وعموما قد تعبر النكتة السياسية في أحسن أحوالها عن نهاية الثورة والتمرد واكتفاء أصحابها بالنكتة التي تسحب من المقهور قسرا ابتسامة عريضة يفسد من خلالها الثائر المنهزم فرحة انتصار الظالم المستبد، ومنه تغدو النكتة السياسية آهات وأنينا يؤكد استمرار الشعوب المستضعفة على قيد الحياة رغم انعدام أبسط شروطها، بعد أن كانت هذه النكتة كابوسا يؤرق الظالمين فتتجافى جنوبهم عن المضاجع خوفا وقلقا من آثارها.

وخلافا لوظيفتها التحسيسية التحريضية على التمسك بقيم الحرية وامتلاك الإرادة أضحت النكتة السياسية صمام أمان للأنظمة السياسية من خلال تحويلها إلى غرفة عازلة يفرغ فيها المواطن شحنات غضبه المتراكمة وضغوطه وآلامه ومكبوتاته، وبناء على ذلك تساهم النكتة في تقوية التعاون الاجتماعي على الصبر والتحمل وعدم التبرم، وكذلك تنشيط الإبداع والخيال للتعالي عن الواقع والعيش في أبراج عاجية تحميها أسوار الأحلام الحصينة، وتتحقق فيها المطالب بعيدا عن عالم الواقع الدنيء الملوث برغبات النفس الأمارة بالسوء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.