شعار قسم مدونات

المشهد الانقلابي المصري

مدونات - السيسي

لم يتصور كثير من القوى الثورية التي شاركت في ثورة 25 يناير 2011 م وبالأخص كثير من قيادات جماعة الإخوان المسلمين حدوث الانقلاب العسكري، ظنا منهم أن عصر الانقلابات قد انتهى. وظنا مني أن بعضهم كان معولا على الرضا الأمريكي بالتجربة في مصر وأنها لن تخرج عن الصورة التركية. الانقلاب لا شك فاجأ بعض الساسة الأمريكان، ووقفت الإدارة الأمريكية في الظاهر موقف الحياد، ولم تصفه في البداية بالانقلاب أو الثورة الشعبية حتى تتبين الأمر وتظهر عواقب الفعل وردته.

بدأ الصراع بين الثورة المضادة والمسار الشرعي والقوى الثورية الحرة في التدافع والشد والجذب، فكان الحراك المتوهج في غالب محافظات مصر شمالها وجنوبها يتصاعد ضد الانقلابين والثورة المضادة. كثير من دول العالم لم تظهر التأييد الواضح للانقلاب في بدايته سوى حفنة من الدول العربية صاحبة التاريخ المجيد في الاستبداد والفساد والطغيان. أيضا كثير من الدول أعلنت بكل صراحة موقفها الرافض للانقلاب وعلى رأسها الاتحاد الإفريقي بمواقفه المعروفة والمشهودة.

كل ذلك في نظري يأتي في مرحلة ثانوية، أما أولوية النظرة التي كان من الإمكان التعويل عليها هي نظرة القوى الثورية للمشهد الانقلابي الداخلي. بعضهم نظر نظرة التهويل والتضخيم للانقلابين من العسكر وأدعياء الليبرالية على أنهم قوة لا تقهر، معهم الجيش والشرطة والإعلام والقضاء وأجهزة الدولة المختلفة، فلا بد من التسليم لهم والإذعان والخضوع لثورتهم المضادة، والرجوع للخلف خطوات حتى ولو قبل ثورة يناير 2011 م لصورة المعارضة السياسية التي كانت على عهد حسني مبارك، والاعتراف بشرعية العسكر ومن معهم من القوى المدنية. البعض الآخر نظر نظرة التهوين، وأن الانقلاب ساقط من بدايته، وكلها أربع وعشرون ساعة أو ضعفها على الأكثر ويعود الرئيس المنتخب لقصره.

الجيش المصري غالبه لم يشارك في هذا الانقلاب، وإنما وقف موقف المتفرج على الساحة، ومن تململ منهم واعترض كان مآله مثل القوى الثورية
الجيش المصري غالبه لم يشارك في هذا الانقلاب، وإنما وقف موقف المتفرج على الساحة، ومن تململ منهم واعترض كان مآله مثل القوى الثورية
 

أزعم أن من تولى إدارة الصراع ضد العسكر كان قريبا من الرؤية الثانية للانقلابين، ولذا تهاونوا معه ولم يدخلوا في إدارة صراع حقيقي ومناسب ضد العسكر. الصورة في ظني المحدود للمشهد الانقلابي كانت كالتالي:

أولا: انتقى قادة الانقلاب مجموعة من القيادات العسكرية والشرطية بعناية فائقة، وجهزوهم معنويا وماديا لسحق الثورة وفض الاعتصامات بكل قسوة وشناعة. وأزعم أن هذه المجموعات التي اختارها الانقلابيون ليست بالعدد الكبير الذي يستحيل التعامل معه وإيقافه عن ارتكاب المجازر التي فعلها في حالة دروشة من القوى الثورية.

ثانيا: بناء على ما تقدم أستطيع أن أقول بكل قوة: أن الجيش المصري غالبه لم يشارك في هذا الانقلاب، وإنما وقف موقف المتفرج على الساحة، ومن تململ منهم واعترض كان مآله مثل القوى الثورية.

ثالثا: بناء عليه أيضا أقول إن إصدار عبارات التخوين لكل قيادات الجيش المصري خلل كبير وانحراف عن حقيقة الواقع. والجواب عن قضية السكوت منهم على المجازر ملخصه: أن الجسم الأكبر من الجيش والشرطة حصل لهم من الخوف والرعب من فرق القتل والإعدام التي كانت تقتل بكل قسوة وغلظة، وينطبق عليهم ما وقع فيه غالب الشعب المصري من الجبن والخوف، حيث إنهم لم يتربوا على مواجهة الأحداث الجسام، فكان الغالب عليهم ما غلب على عامة الشعب.

التصور بأن كل الجيش شارك في القتل أو أيد القتل تصور في نظري المحدود يحتاج إلى دقة العبارة والوصف، كما أن وصف الجيش كله بالمصرائيلي لسكوته عن المجازر يستتبع ذلك وصف الشعب المصري كله بالمصرائلية مثل جيشه، وهذا كلام في نظري ضرره أكثر من نفعه، فضلا عن أنه لا يمثل حقيقة الواقع.

إذا فككنا المشهد الانقلابي، وعلمنا حجمه الطبيعي، ستظهر الصورة الحقيقية لهؤلاء الخونة، وأنهم مجرد شرذمة قليلون تحكموا بإدارة الصراع وجعلونا جزءا من خطتهم

رابعا: كما اختار العسكر مجموعة معينة من الجيش والشرطة اختار مجموعة من القضاة والإعلاميين والقوي المدنية التي شكلت جبهة الإنقاذ واستغلالها في إدارة الصراع مع القوي الثورية. غالب القضاة وكثير من الإعلاميين ليس مؤيدا للانقلاب وإن كان وقف موقف المتفرج أو النفعي من بعض المميزات التي حققها له الانقلابيون.

خامسا: ملخص المشهد الانقلابي أنه انتقائي، وما زال انتقائيا حتى الأن. قد يقول البعض لم هذا الكلام الآن وما فائدته؟ أقول: تصورنا الخاطئ في الماضي بين التهوين والتهويل وفوضى إدارة الصراع أوردنا ما نحن فيه الآن. الصراع وإن خفت حدته وتآكل لصالح الانقلابين، إلا أن رصد الصورة الانقلابية بصورة علمية دقيقة في ظني هو محور ارتكاز النجاح. قد يظن البعض أن اجتماع القوي الثورية هو الحل الأمثل لكسر الانقلاب، لا شك هذا شيء جيد ومطلوب، لكن الذي معه ويصاحبه قراءة الخصم بصورة متأنية، تعرف أهدافه ووسائله وأدواته وحجم التأييد الشعبي له. البداية الصحيحة التي يجب أن ننطلق منها هي قراءة الخصم ومعرفة أخطائه وشناعاته وبناء تصور ثوري لوقفه عند حده أولا ثم كسره وفضه ثانيا.

هل نمتلك القوة والإرادة التي تعزز تصور النجاح؟

أقول وبكل ثقة نعم نستطيع، الشعب المصري الآن في حالة غليان نفسي وداخلي، كيف تخرج هذه الطاقة في صورة ثورية ناصعة الحدة والقوة هذا دورنا. العالم الخارجي الآن ينظر لمصر في صورة القزم المتحرك حركة البهلوان، هل نستطيع أن نصنع حالة من النجاح في الخارج لإبعاد وملاعبة هذه القرود النحيفة، نعم نستطيع. حوارنا وخطابنا لعامة الجيش والشرطة والقضاء ممكن أن يؤتي ثمرته، بتفعل الغالب منهم للخروج من الضياع والسقوط. نعم نستطيع بخطابنا المدروس والعلمي البعيد عن التهويل والتخوين الدائم لكل فئات الشعب المصري.

هل نستطيع أن نحاصر الفئة الباغية المنقلبة بأدواتها التي استخدمتها ضد الثورة؟
نعم نستطيع إذا فككنا المشهد الانقلابي، وعلمنا حجمه الطبيعي، ستظهر الصورة الحقيقية لهؤلاء الخونة، وأنهم مجرد شرذمة قليلون تحكموا بإدارة الصراع وجعلونا جزءا من خطتهم يتلاعبون بنا حيث شاؤا وقتما شاؤوا وكيفما شاؤوا. بناء جدار الثقة بين الثوار أمر جليل وكبير وعظيم، وبناء التصورات الثورية على رؤي محددة وأهدافه قابلة التنفيذ أمر يحتاج منا جميعا جهدا كبيرا. الدنيا لم تنته بعد، والحرب لم تضع أوزارها حتى الآن، المهم ألا نستسلم للذبح ونسميه شهادة وصبر وثبات، فليمت منا العشرات بل المئات لكن تحت تصور ناضج، وهدف كبير، وقيادة حازمة تصنع النجاح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.