شعار قسم مدونات

لا تهاجر .. فلسنا أنصاراً بعد الآن

blogs-travell

لعلهما عامان قد انقضيا أو ربما أكثر حين خطت قدماي أولى خطواتهما خارج أرض الوطن. كانت هجرة في بداية الأمر، قلب موجوع وعيون ألفت البكاء بين الفينة والأخرى دعوات بالليل أن ينصر ربى القضية وأهلها وأن يردنا إليهم منصورين عن قريب.

         

لم ولن أنسي تلك اللحظات التي كنا نجتمع فيها لنتذاكر أيام النضال والهتاف حيث يختلط الضحك بالبكاء ويختتم الجلسة -غالباً- أحدنا بقوله "هييييييه أيام" وكانت لفظة "المهاجرين والأنصار" كثيراً ما تتردد هنا وهناك أولئك السادة -رضوان الله عليهم- الذين لم يخالط النسيان قلوبهم ويلهيهم عما خرجوا في سبيله وتركوا ديارهم وأهلهم من أجله.

            

كنا بخير حينها، موجوعون لكن بخير كانت تلك الحياة في قلوبنا تعيننا على البقاء وتلك الهموم في عقولنا ترفع من أقدارنا ونحن لا نشعر، كان قليل متاع الدنيا يرضينا فالمقام ليس مقام استقرار-أو هكذا كنا نظن في البداية- والمدة وإن طالت فهي لاتزال "مؤقتة" وقريباً نعود كما كنا بين أهلنا وفى ديارنا بل وأفضل. وكنا كلما جاء أحد "المهاجرين" الجدد لاقيناه بتلك المعاني وشددنا على يديه أن ما سيلقاه من غربة ما هو إلا سحابة صيف عابرة وستمضي لحالها.

        

ثم فتحت علينا الدنيا دون اختيار من بعضنا وبسعي من البعض الآخر، فتحت واندفعت نحونا بأعنف ما فيها من متع وملذات! رفضها أغلبنا في بادئ الأمر. تنزه عن ذلك اللهو وظل متمسكاً بتلك الهموم وتلك الدمعات يطرد النسيان إذا ما تسلل إلى قلبه ويظل يذكر نفسه أن المقام لا يزال مؤقتاً فعلام نغتر به ونرضى!

                       

إن القوم هناك لا يزالون في سجونهم يبكون كل ليلة ويدعون بما لا يسمعه إلا الله، ولايزال أهلوهم على أبواب السجون ينتظرون صوت صافرة بدء الزيارة وقلوبهم تلعن النافخ فيها ومن معه

إلا أن الدنيا -على ما يبدو- كانت أقوى، وماهي إلا أيام حتى صار أهل ركعات الليل ينامون عنها لعمل عندهم في الصباح واستبدلت دمعات الليل ودعوات الرجوع بنزهات في الحدائق وتسوق في الشوارع، حتى استرجاع الذكريات والتواصي بالدعاء حل محله مناقشة الرواتب ومواعيد العمل وأماكن قضاء العطلات!

           

سقتنا الدنيا خمر لعبها ولهوها حتى الثمالة، واستحال المقام المؤقت مقام استقرار وخالطت هموم القلب وانشغاله بأهل السجون بعض المتع والضحك بين الحين والآخر، حتى صار ذكر الكلمات التي تذكرنا بالماضي في مجالسنا محل استنكار ورفض من البعض معللاً ذلك بقوله "يا عم مفيش حاجة نقدر نعملها حتعكنن علينا ليه!"، واتضح في النهاية أن الفكرة قد تموت ليس بالرصاص كما كنا نخشى ولكن بالراحة والأمان!

        

والكل في ذلك يظن نفسه الاستثناء الذي يثبت القاعدة فالمقصود بقولة المغترون بالدنيا -بحسب فهمنا- هم أولئك أصحاب الملايين والسيارات الفارهة والشقق المترفة ولسنا نحن أهل الشقق المستأجرة والحسابات البنكية الخالية، ولكن لا! إن الدنيا حين طرقت أبواب القلوب لم تقصد البعض وتترك البعض الآخر لقد باغتت الجميع واستقرت في قلوبنا بنفس القدر أو بتفاوت بسيط، أما ذلك التفاوت الضخم الذى تراه في المتاع فما هو إلا قدر الله وتقسيمه للأرزاق ولو كان في يدك مثلما في أيدى هؤلاء الكبار من الأموال لفعلت فعلهم بل وربما أكثر .

              

إن القوم هناك لا يزالون في سجونهم يبكون كل ليلة ويدعون بما لا يسمعه إلا الله. والأزياء الزرقاء والبيضاء والحمراء لازالت توزع بألوانها المقيتة عليهم ليرتدوها مجبرين دون اختيار منهم، ولايزال أهلوهم على أبواب السجون ينتظرون صوت صافرة بدء الزيارة وقلوبهم تلعن النافخ فيها ومن معه. لازالت أساور الحديد تضيق الخناق على أيدي أخواتنا في بقاع الأرض بدلاً من أساور الزواج التي تليق بتلك الأيادي الطاهرة، إلا أننا -وبكل أسف- صرنا ننسى أو نتناسى كل هذا والعلة ثابتة لا تتغير "مفيش حاجة نقدر نعملها"، ألا فإن كان ذلك حقاً فليكن ما ستفعلونه هو أن تحزنوا! اعتذروا إلى الله -إن كان لمثلنا اعتذار- بالبكاء ليلا على التقصير والدعاء نهاراً لأهل البلاء.

           

هذا وليس للمتحدث وقد تقلب في الدنيا ونسى كغيره بل وأكثر أن يقف موقف الناصح ولا موقف المعاتب، ولكن موقف التائب المستغيث يا قوم إننا لم نخرج لنعمل ونجمع مال الأرض ونطبع آلاف البيانات ونخرج ما لا يعد من التصريحات، إنما قدر الله لنا الخروج لحكمة يريدها ودين للشهداء والمعتقلين والمستضعفين من أبناء ديننا في مشارق الأرض ومغاربها في رقابنا قد وجب علينا سداده، وهو -سبحانه وتعالى- سائلنا لا محالة عن هذا الوقت وتلك الحرية التي من علينا بها دون كثير من خلقه. فإما أن نستيقظ ونمضي على خطو المهاجرين والأنصار في الجيل الأول فيمكّن الله لنا وينزل النصر على أيدينا. أو نمضي في تيهنا فتجرى سنة الاستبدال ونمضي كما مضى غيرنا ممن بدأ على الحق ثم سقط في الطريق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.