شعار قسم مدونات

غيّرت بنود العقد!

blogs - girl
غالبيتنا العظمى سكنت بأفكارها وتوجّهاتها العالم الافتراضي عالم السوشيال ميديا، ذلك البراح اللامحدود بلا رقيب ولا حسيب يُذكر، حيث الكل متحدث بما يشاء وكيفما يشاء، بإمكانك أن تطرح أفكاراً ورؤى ومعلومات وآمال وأمنيات، وبإمكانك أيضاً أن تطرح الآخرين سباً وشتماً وتهديداً وإقصاء.. بإمكان المظلوم أن يصرخ ويستنجد ويُخبر عن مظلوميته، وبإمكان الظالم أن يستعرض إجرامه ويرهب ويحشد..

الجميع متساوون الضحية والجلاد، الصديق والعدو، الواعي والجاهل، المحترم وغير المحترم.. الجميع متساوون والجميع مجموعون دون حواجز بينهم أو تصنيفات.. كثيرون يروْن في ذلك المعنى الحقيقي لحرية الرأي والتعبير، يرونه المنبر الذي لا يشترط مواصفات ولا معايير والملكية المطلقة، فالكل سواسية في الحصول على مساحته التي حجزها لنفسه كناشر معتدّ بكل حرف ومنافس على كل هاشتاج وساحته للفروسية في معركة إلكترونية.

لكنّ هذا العالم لن يسمح لك بالانقطاع عنه طالما تأسرك عروضه المغرية، وقد قبلت به عالماً موازياً وتعاقدت معه أن تنفق فيه من عمرك مقابل تلك المساحة الحرة، وأنت تدرك جيداً أنها علاقة طردية، كلما انفقت من عمرك أكثر كلما تمتعت بلذة الحرية بأوسع معانيها..

ألا يتحكم العالم الافتراضي بِنَا ويحدّ من خياراتنا ويضع لها اشتراطات ويجبرنا على قبول ما لم نكن لنقبله في الواقع؟!
ألا يتحكم العالم الافتراضي بِنَا ويحدّ من خياراتنا ويضع لها اشتراطات ويجبرنا على قبول ما لم نكن لنقبله في الواقع؟!

كما أن هذه الحرية بهذا المفهوم تجبرك على دفع ضريبة هذا الامتياز عبر تقبُّل واقع أنه كما هناك متعاقدون آخرون على الضدّ مما تنشره ومن كثير مما تؤمن به، هناك آخرون قد تكون حريتهم على حساب خصوصيتك أو حدود المقبول عندك، وآخرون اقتحموا هذا العالم بهدف النيل من حريتك في التعبير طالما تختلف معهم، وآخرون متنمرون يجدون فيه الوسيلة الأفضل لتصيّد ضحاياهم، وآخرون يبحثون عن أتباع يسوقون أفكارهم إلى حيث تهوى توجهاتهم، وآخرون وآخرون قِس على ذلك من أطباع ومآرب البشر.

هذا العالم الافتراضي هو لكثيرين بمثابة المأوى لكل ما هو مكبوت داخلهم خيراً كان أو شراً مما لا يمكنهم الجهر به في عالمهم الحقيقي. قد يقول البعض ممن استحوذَت عليهم سُكنى هذا العالم أن هناك رقابة تحفظ لك بعضاً من الحقوق وتحقق شيئاً من حدود الخصوصية عبر الحظر أو الكتم أو الابلاغ، ولكنّ الحقيقة أنها رقابة زئبقية فما تحظر أو تكتم أو يُلغى لك ليس سوى حساب افتراضي حتى وإن كان موثقاً، وعليه فإن لصاحب الحساب المحظور أو الملغى "ومن ذات مبدأ الحرية" له الحق أن يُنشأ عشرات الحسابات الأخرى، وبقدرٍ من الاجتهاد يستطيع أن يوثّق أحدها ليسترجع مكانته..

بمعنى آخر "لا يوجد استئصال نهائي لمستخدم سيء ولن يوجد" كما أن عدد المستخدمين سيضعك أمام تحدٍ كبير في القدرة على استخدام تلك الرقابة على الجميع، ولا تنسى أنك إن كنت ككثيرين تكنِز اللايكات والشير والكومنت لتصنع ثروتك الافتراضية، التي هي معيارٌ تقاس به مكانتُك كناشر على منصات التواصل الاجتماعي، فإن ممارسة تلك الرقابة سيكون على حساب ثروتك الثمينة تلك.

قنّنت الوقت الذي أنفقه من عمري في هذا العالم الافتراضي، لأعيشه بلحمي ودمي مع أهلي وأصدقائي ومجتمعي ونفسي في عالم حقيقي يعرفني كما أعرفه معرفة حقة.
قنّنت الوقت الذي أنفقه من عمري في هذا العالم الافتراضي، لأعيشه بلحمي ودمي مع أهلي وأصدقائي ومجتمعي ونفسي في عالم حقيقي يعرفني كما أعرفه معرفة حقة.

كل ما تقدم ألا يجعلك تتساءل: أليست هذه الحرية أقرب لخدعة؟! ألا يتحكم العالم الافتراضي بِنَا ويحدّ من خياراتنا ويضع لها اشتراطات ويجبرنا على قبول ما لم نكن لنقبله في الواقع؟! ألم يضعنا جميعاً في بوتقة واحدة يتدفأ باحتراقنا داخلها؟! ولأنني أريدها حرية حقيقية تمردت وزهدت في فاحش ثراءه الذي يقاس كمّاً لا نوعاً.. ولأنني على قناعة بمبدأ أن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين وضعت الحدود لمساحتي الخاصة، فليس الاعتداء على حقوق غيرِك من أوجه الحرية، كما تفسد الحقوق من وجهة نظري عندما تستخدم لأذى الآخرين.

قنّنت الوقت الذي أنفقه من عمري في هذا العالم الافتراضي، لأعيشه بلحمي ودمي مع أهلي وأصدقائي ومجتمعي ونفسي في عالم حقيقي يعرفني كما أعرفه معرفة حقة، وحيث كل شيء واقعي وملموس، النجاحات والهزائم، الفرح والحزن، والأفعال التي هي مرآة الأقوال والقيم والترجمان الدقيق للشخصيات.. قننت الوقت الذي أشغل فيه بعضاً من جسدي حدّ الإرهاق وأعطل فيه البقية الأخرى حدّ الشلل..

لم أعتزل عالم السوشيال ميديا ولا ينبغي ذلك، ولكني رفضت حالة الابتزاز التي يشعرني بها كلما وطأته أفكاري أو حروفي.. لن أسفك حبر كلماتي رخيصاً طمعاً في لايك أو شير ولن تكون مساحتي مرتعاً للمتجاوزين.. ببساطة لقد غيّرت بنود العقد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.