شعار قسم مدونات

سيكولوجيا التواصل الرقمي.. سحر "اللايك"

blogs- facebook

هل تتفقد كل دقيقة عدد الاعجابات التي نالها منشورك على الفيسبوك وتبتهج لازديادها؟ أو هل تذكر أنك أردت يوما وضع "لايك" على قطعة ملابس شاهدتها في السوق، أو على كلام شخص بعدما انتهى من الحديث أو على مقالة قرأتها في مجلة؟ إنه تأثير التكنولوجيا، وسحر العصر الذي نعيشه.

          

فقد أدخل علينا التواصل الاجتماعي الرقمي العديد من المفاهيم الجديدة حول سلوك البشر وردود أفعالهم، وفتح العديد من الأبواب في علم النفس والاجتماع على دراسة السلوكيات الإنسانية في أماكن جديدة هي المساحات "الافتراضية". نتطرق هنا بشكل خاص ومبسط إلى تأثير "اللايك" على مرتادي مواقع التواصل الاجتماعية، وهو أمر لا يكاد ينجو منه أحد. فلماذا نتأثر به ويجعلنا سعداء وكيف يتم ذلك؟ وهل هو مجرد زر؟ لكن قبل الإجابة على ذلك علينا الحديث عن هويتنا في العوالم الافتراضية.

      

الهوية الرقمية

يبرز السؤال دائماً، هل هويتنا في العالم الرقمي هي هويتنا الحقيقية؟ يقول أحد أساتذة علم النفس بأن هويتنا الرقمية هي هوية هجينة، فهي من جهة تمثلنا نحن بأسمائنا وذواتنا، لكنها من جهة أخرى تظهر جزءاً آخر منا، قد يكون جزءاً مختلفا رسمناه متعمدين حتى يظهر للآخرين بهذا الشكل. أو قد يكون جزءاً حقيقا لكنه مجتزئ، بمعنى أنه حتى الذين لا يسعون لإبراز انطباع أو صورة معينة عن أنفسهم لديهم هوية مجتزأة، فهم بالنهاية لا يبرزون جميع نواحي ذواتهم وشخصياتهم فإمكانية حدوث ذلك في محيط كهذا صعبة جداً. ودليل ذلك واسع، فالعديد من أصدقاءنا الرقميين الذين نعرفهم بشكل حقيقي يبدون مختلفين عن الحقيقة في مواقع كالفيسبوك والانستغرام، وهذا بالمناسبة قد يجعل تفاعلنا معهم مختلفا عن تفاعل الأشخاص الذين لا يعرفونهم بشكل حقيقي (قد يكون أسوأ أو أفضل).

  

قد يكون التفاعل بـ
قد يكون التفاعل بـ "لايك" أمراً إيجابياً يعادل إطراءاً أو ابتسامة في الواقع الملموس، وقد يعادل الاهتمام الذي نبحث عنه في أرض الواقع، فالحصول على هذه الإعجابات يعني أنّ أحداً يهتم لما نقول


لذلك فالهوية المجتزأة أمر لا بد منه في العالم الرقمي، وما يجعل الأمر كذلك هو كون هذه المساحة مساحة مختارة، ينتقي فيها الإنسان ما يريد إظهاره انتقاءاً، على عكس الواقع الملموس الذي يضطر فيه الإنسان لكشف الجانب السيء في بعض المواقف رغما عنه. فالمواقف الحقيقة مثلا تكشف الكذب، لكنك لن ترى أحداً يكتب على الفيسبوك "أنا كاذب". (إلا بالطبع في بعض المنشورات الدرامية التي يعج بها الفيسبوك.) هذا لا يعني بأننا لا يمكننا معرفة الأشخاص من خلال حساباتهم الرقمية، بل هذا ممكن فعلاً، وهناك دراسات كاملة تعنى بتحليل الشخصيات من خلال تفاعلها الرقمي، لكن احتمال أن تكون هذه المعرفة مضللة هو احتمال كبير.

هل اللايك مجرد زر؟

الجواب هو لا. في دراسة أجراها البروفيسور "لاري د. روزن" من جامعة كاليفورنيا، سأل فيها المشتركين عن استخدامهم لزر "اللايك" قال ٥٢٪ من جيل مواليد التسعينيات بأنهم يستخدمون اللايك بشكل يومي أو شبه يومي للتفاعل مع أصدقائهم، وكانت النسبة ٤٥٪ لجيل الثمانينات، و٣٢٪ لجيل الستينيات والسبعينيات. مما يعني أنها ميزة يستخدمها الجميع بنسب متفاوتة. وتأثيرها ممتد إلى المعطي والمتلقي على حد سواء. وذلك بالطبع غير محصور بـ "اللايك" بل هو تعبير رمزي عن التفاعل الذي يتلقاه الأشخاص بشتى أشكاله. فما دوافع استخدام هذا الزر؟ يمكننا تلخيصها بالآتي:

١- الإعجاب بمحتوى المنشور.

٢- الإعجاب بصاحب المنشور "وديا أو عاطفيا" بغض النظر عن المحتوى.

٣- الحصول على إعجاب بالمقابل ( من مبدأ الديْن).

٤- لأن هناك إعجابات كثيرة على المنشور، أو أن صاحبه مشهور، فلا بد أن يكون جيدا.

٥- التملّق.

            

أما عن تأثير "اللايك" على المتلقي، فهو كبير بالفعل، خاصة وأن كثيراً من مشاهير العوالم الرقمية (ودعونا نحصرهم بالمشاهير الذين اشتهروا من خلالها)، قد أصبحوا مشاهير بفضل هذا الجيش من المتابعين. فإذا تخيلنا أحدهم دون هذا التفاعل هل سيكون مشهوراً؟ إن الحصول على هذا التفاعل بمختلف أشكاله هو شكل من أشكال الدعم والشعور بالتقدير بالنسبة للمستخدم العادي، ومصدر من مصادر الشعبية والشهرة بالنسبة للشخصيات المشهورة. فهو يحقق نشوة الإعجاب والظهور والشعور بالأهمية. 

      

الجمهور الرقمي يبحث في  الغالب عن المؤثرين المروجين لعمقهم أو من ينشرون صوراً جذابة لطعامهم وملابسهم وأسفارهم مع التسويق لإنجازاتهم دون معنى حقيقي لما يفعلون. 
الجمهور الرقمي يبحث في  الغالب عن المؤثرين المروجين لعمقهم أو من ينشرون صوراً جذابة لطعامهم وملابسهم وأسفارهم مع التسويق لإنجازاتهم دون معنى حقيقي لما يفعلون. 

      

قد يكون التفاعل بـ "لايك" أمراً إيجابياً يعادل إطراءاً أو ابتسامة في الواقع الملموس، وقد يعادل الاهتمام الذي نبحث عنه في أرض الواقع، فالحصول على هذه الإعجابات يعني أنّ أحداً يهتم لما نقول، لكن خطر تأثيره يكمن في موقع "الأنا" بالنسبة لهذا التفاعل، فقد يتطرف الأمر حين يشعر الشخص بأن عدد الاعجابات مقياس لنجاحه أو جودة منشوره، فيشعر بالاستياء إذا لم يحصل على التفاعل المطلوب. ربما لا يظهر هذا التأثير على المستخدم العادي بالقدر الذي يظهر فيه على المشاهير الذين سبق الإشارة إليهم، فالحصول على أكبر قدر من الإعجابات قد صار هوساً بالنسبة لعدد كبير منهم، حتى أنهم قد ينشرون أي مادة سطحية أو دون معنى مراهنين على عدد الإعجابات التي سيتلقونها والتي ستشعرهم بالسعادة.

        

مع الإشارة إلى أن الجمهور نفسه يعرف مدى سطحية المنشور، لكنه يتفاعل رغم ذلك وفقا للدوافع التي ذكرناها سابقا. إن الرغبة في كسب التفاعل أمر شبيه بالإدمان، وأساسي للبعض فهو بمثابة "تحقيق للذات". فالأرضية التي قامت عليها شهرتهم هي الجمهور الرقمي ذو الكثير من التفاعل، وأي اهتزاز في الأرضية هو اهتزاز في كامل الكيان، على عكس أصحاب الشهرة الواقعية القائمين على أرض صلبة حيث لا يبدون اهتماماً هوسياً بالتفاعل، ولا يقضون وقتهم بالتفكير في كيفية جذبه.

         

أما الجمهور الرقمي الذي بالملايين فمن الصعب حصره باتجاه واحد، لكن السمة الغالبة فيه هو سهولة الانقياد والجذب بالإضافة إلى الإعجاب بالأمور قليلة العمق سهلة الفهم، فهم يبحثون في الغالب عن المؤثرين المروجين لعمقهم أو من ينشرون صوراً جذابة لطعامهم وملابسهم وأسفارهم مع التسويق لإنجازاتهم دون معنى حقيقي لما يفعلون. وبالمقابل يحصل هؤلاء المشاهير على العديد من الفرص في العالم الواقعي بسبب شهرتهم. فتصبح القضية من يعرف كيف يروج لنفسه أكثر بعيداً عن الموهبة الحقيقية. لكن رغم ذلك يمكننا القول بأن الشهرة التي تولد مع العالم الرقمي تموت معه إذا لم يكن لديها كيان حقيقي، والوقت كفيل بأن يُبقي الأفضل.

وخلاصة القول، إن كمية التفاعل التي نحصل عليها ليست مقياساً للمادة التي نقدمها للجمهور، ولا لمدى محبة الآخرين لنا. والعبرة هي ألا ننساق وراء هذا الحَكَم المزيف، فنغير مستوى خطاباتنا إلى "ما يطلبه الجمهور" في سبيل نيل إعجابه. وبالنهاية فالوقوف على أرضية صلبة مع الحفاظ على الخطاب الجيد هو ما يثري تجربتنا وذواتنا فعلاً وليس الجماهير الزائفة. وأخيراً، أرجو أن تحصل هذه التدوينة على العديد من الإعجابات، أمزح بالطبع، أتمنى فقط أن يقرأها الكثيرون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.