شعار قسم مدونات

بؤرة الميقات.. إحرامٌ في التخوم

مدونات - الحج

من مقام إبراهيم، ومع إشراق أوائل ذي الحجة من كل عام يكون أذان الخليل -عليه السلام- بالحج قد بلغ مداه في اختراق حجب الزمان والمكان وتردد صداه بهذه الفجاج العميقة. فقد أسمع -عليه السلام- (من في الأرحام والأصلاب وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة، لبيك اللهم لبيك).

وفي استجابة والهة تبدأ حركة دؤوب في اتجاه البيت العتيق الذي لم يكن يُستقبل إلا رمزا في الصلاة، وها هو قد أضحى ملاذا عينيا يتحرك نحوه الإنسان، فـ "ما هو موجود في هذه الرُّبَى هو الحركة مقرونة بالوجهة ولا شيء غير ذلك". ولأن وجه الله حاضر في كل مكان فإن آية البيت المبارك تحديد الوجهة وتوحيدها هداية للعالمين..، تماما كما هي ملة إبراهيم -عليه السلام-، "قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ" آل عمران:95-96.

هكذا يغدو البيت دليل وجهة "فالكعبة ليست بحال نهاية الطريق، إنها بدايته"؛ "فأنت تبدأ الحج حينما تقرر أن تتحرك تجاه الأبدية" سالكا متقربا في اتجاه من لا اتجاه إلا إليه، إليه وحده لا شريك له، لأن الله سبحانه هو المبتغى الوحيد الذي يجعل الأمر حيويا أبدا، فهو وحده الذي يعطي للوجود كل الوجود المعنى. ولذلك قالوا: "شتان بين قاصد بنفسه إلى زيارة البيت، وبين قاصد بقلبه لشهود رب البيت".

الحج في جوهره رحلة استعادة الذات لحقيقتها وتطويع المجاز للحقيقة عبر إيقاظ يستمر من لحظة دخول الميقات إلى آخر شوط من طواف الوداع. إيقاظ مسلكي حي يتجاوز المجرد من الكلمات والمواعظ إلى شهود إحساسي.

وتبلغ الجمالية مداها في هذه البلدة التي حرمها الله حينما تتلاحم حرمتا المكان والزمان في ذات الداخل في التجربة كما هي في الشعائر "كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا" فينتاب الحاج وهو ببؤرة الميقات شعور اقتراب كثيف نحو الله وارتقاء حاد إليه يوصله إلى التخوم وليس ذلك إلا إيذانا له بدخول مقام الإحرام.

مقام الإحرام محطة اندراج ولحظة انسجام مع مدارات الكونية الآمنة حيث استدرار ألطاف الغيب وجميل نفحاته قربا وأنسا. وكذلك هي مواقيت التعبد كلها..، فيها من الأسرار ما ينأى بها أن تبدو مجرد توقيتات باهتة لا معنى لها. إنها تعبير عن امتدادات ملكوتية عميقة لحركة التعبد الأرضي امتدادَ القبلة البيت العتيق إلى البيت المعمور في غيب السماء السابعة حيث الملائك الصافات لا تنفك طائفة..، مسبِّحة ومقدِّسة لله رب العالمين، ولا مطلوب آنئذ إلا التناغم والانسجام معها حسا وإحساسا كما في إشارته صلى الله عليه وسلم: "ألا تصُفُّون كما تصُف الملائكة عند ربها؟" وبذلك تبلغ البركة بعبادة المؤمن سدرة المنتهى، فيتخصب زمانه ويتسرمد إذ يخرج به من الفناء إلى البقاء.

المكان هنا ليس مجرد حيز، وإنما هو مجموعة مشاعر، ولأن المشعر -بتعبير ابن عربي- "محل شعور" و"مقام مشاهدة" فهو لا ينتظر من نزيله المُلبِّي إلا شيئا من توثُّبٍ لينضح بالحياة، فيلبي معه (من عن يمينه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر..)، وكذلك هو الزمان إذ يتجاوز هشاشة آنِه وانسرابها المخيف ليغدو ضاربا في عمق الأبدية " وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ" الفجر:1-4. وتلك أحب الأيام إلى الله فـ "هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ" الفجر:5.

ولهذا جُعل الميقات..، إنه "زمن في مكان ومكان في زمن، وسر اسم المفعول فيه أقوى من المفاعيل الأخرى في العربية.. لأنه اسم ينفعل فيه الزمان والمكان والإنسان.." فيغدو مَعْبَرا عمليا إلى أعيان الوجود ومدرجا إلى أسراره. كما يغدو الإحرام به -أي بالميقات- لحظة انتباه للذات إلى منفاها الدنيوي الذي طالما تشظت فيه بين مدة وامتداد، وهي بذلك لحظة اختبار لها في إمكان ارتقائها نحو أبديتها وكمالها في وجود الفطرة الأصيل، ارتقاء لا ينفي حقيقة الزمان والمكان وإنما يستشرف فيهما دفق الحياة.

undefined

وباستحضار هذا المعنى تغدو لحظة الإحرام تأسيسا لوعي فائق بالزمان والمكان يخرجهما عن كونهما مجرد مواقيت تشريعية باهتة إلى إمكانيّات كونيّة حية توهب للإنسان للحضور وشهود المعنى، ومواقيت التعبد محطات عظيمة بما تطويه من أسرار ونفحات "إنّ لله في أيام الدهر نفحات فتعرّضوا لها".  هنا وبالإحرام تميط الذات أقنعتها الطارئة التي طالما حولت وجودها إلى تفاهة وإلى "سلسلة من القواقع الفارغة التي تعدم أي مغزى"، فهنا لا ملبس إلا ما به حاجة الستر من غير المخيط المحيط، ولا عمامة ولا نعل يستر الكعبين، ولا نقاب للمرأة، ولا طيب..، كل ذلك عند التأمل ما هو إلا البداية الرمزية والوجهة الضرورية صوب الإنسان الأعمق.

وليس للإنسان هنا إلا أن يجدد الاستجابة بوعيه ضمن وجوده المُلكي عودا إلى البدايات ووَصلاً منه بين المجاز والحقيقة، "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا" وإنما المثابة الرجوع والعودة، وهو بتعبير الجنيد (أن يرجع آخر العبد إلى أوله فيكون كما كان من قبل أن يكون) وذاك من معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فيرجع كيوم ولدته أمه".

والتلبية إيعاز اندراج في موكب المشتاقين السائرين إلى الله عبر هذه المشاعر يعج بها الحاج في شوق ووَلَه منقطع النظير وذلك من أفضل الحج.

والإنسان في حقيقته تقلُّبٌ خصب بين وجودين،.. وجود ملكوتي عميق يمتد به إلى لحظة الإشهاد الإلهي الأول عند "قَالُوا بَلَى"، ووجود آخر هو ظله في التاريخ لا يمتد إلا إلى لحظة تعلقه بالرحم المُلكي ثم إنشائه خلقًا آخر حيث يصبح الإشهاد الإلهي اختيارًا له في عالم الشهادة،.. وبين الحقيقة والمجاز،.. بين أن يعانق الظلّ حقيقته في أحسن تقويم شهودًا، أو أن يستقلّ الظلّ فيصير هو الحقيقة في أسفل سافلين جحودًا.. بين هذا وذاك تبدأ رحلة اقتحام العقبة من عدمه. وبذلك فقط يتحدّد مصير اختيار الإنسان تزكيةَ عِتْقٍ، أو تدسية رِقٍّ.. "وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ"، وكذلك هو في أهليّته، ولكنه كما عبّر مولانا الرومي: "بزهادته في نفاسة نفسه يبيعها رخيصة" "إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا".

الحج في جوهره رحلة استعادة الذات لحقيقتها وتطويع المجاز للحقيقة عبر إيقاظ يستمر من لحظة دخول الميقات إلى آخر شوط من طواف الوداع. إيقاظ مسلكي حي يتجاوز المجرد من الكلمات والمواعظ إلى شهود إحساسي مختلف تؤديه الذات بمكابدة وجدانية والهة، فهو "حج وليس مجرد زيارة دينية.. إنه تظاهرة أصيلة للوجود".

هكذا يبدأ توق الذات العارم إلى كمالها الوجودي عبر وجدانها معناه حيًّا فيها وقد بدأت تستغرقه تخلصا، وليس للإنسان الآن إلا أن يجدد لربه تلبية غيب الأصلاب بتلبية عالم الشهادة ويرددها بفائق وعيه ليصل مجاز وجوده بحقيقته.

والتلبية إيعاز اندراج في موكب المشتاقين السائرين إلى الله عبر هذه المشاعر يعج بها الحاج في شوق ووَلَه منقطع النظير وذلك من أفضل الحج. ها هو يفصح عن هدفه بقوة وبتركيز بالغ، (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) عهدًا بإسلام الوجه له وحده في ارتقاءٍ قاصدٍ إليه عبر منازل من التخلّص فالإخلاص نحو الخلاص.. إشهادٌ لا ينتهي حتى يلقى الإنسان نفسه، وإذاك فقط يمكن أن يلقى ربه.. هكذا تبدأ التجربة..

_____________________________________________
مراجع:
– علي شريعتي- الحج الفريضة الخامسة.
– أحمد عبادي- القِبلة.
– عرفان الفهدي- تأملات جمالية.
– أحمد الحمدي- الوعي الفائق.
– نهاد خياطة- دراسة في التجربة الصوفية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.