شعار قسم مدونات

جنة الدنيا وفردوس الهوى

blogs - غرناطة
"وإنّ أمّة لا تَدري مِن أيّ الجِهات أتت. لا تدري إلى أيّ الجِهاتِ تسير" هذه الجملة الّتي علقت في ذهني في ذلك اليوم الذّي حضرتُ ندوةً بعنوان "في حضرة الأندلس. وقفة وحوار"، كانت نقطة التغيير وبداية اجتياحي للعالم الأندلسيّ إن صحّ التّعبير، الذّي تغنّى شعراءُ زمانه به وبما أنجبته الحضارة آنذاك، فكانت الحضارة المعماريّة الإسلاميّة في الأندلس هي الشّاهد على تراث أسلافنا على امتداد ثمانية قرون ونيّف، فتمّ تشييد القصور والمساجد والأسوار والبوّابات والحدائق بطريقة فنيّة حديثة لم يسبق لها مثيل، وسوف أتناول في مدوّنتي الأولى هذه صورًا ومقتطفات للمنارة المعماريّة في الأندلس لعلّنا نهتدي بها ولنفخر برموزها وإنجازاتها في زمن تتابع السقوط والخيبات.
أحد أشهر المعالم الحضارية والّذي يهيمنُ على أكناف غرناطة "درّة الأندلس" ويعتبر من كنوز المدينة، إنه قصر الحمراء، وممّا أعطاه هذه الأهميّة التّصميم العجيب الّذي جمع بين عبق الماضي بما في ذلك الاستعانة بمخلّفات الرومان والأنباط وأساليب البناء القديمة وأصالة الحاضر في اللمسات التّي أضافها الفنيّون والمهندسون ليغدو كما وصفه البعض "تحفة في عنق الأندلس".

يقع القصر الذي استغرق بناؤه أكثر من ١٥٠ سنة على هضبة تسمى هضبة سبيكة ومحاط بأودية شديدة الانحدار من ثلاث جهات على جانبيه ومن أمامه ويقع آخر تلال "سيارا نيڤادا" من خلفه، بني في القرن الخامس الميلاديّ على يديّ محمد بن نصر أحد السّلاطين وقد تمّ إعادة ترميمه وبناء قصور داخلية من قبل السّلاطين المتعاقبين فيما بعد، ويعود سبب تسميته إلى أنّ لون حجارة القصر تميلُ إلى الحُمرة ومنهم من يقول نسبة إلى "بني الأحمر" وهم من حكموا غرناطة في فترة بناء القصر،

يقع بالقرب من الحمراء ما يسمّى "جنّة العريف"، أنشأها ثاني سلاطين بني الأحمر محمّد الثّاني، وتضمّ بداخلها أربعة بساتين حيث اتّخذها الملوك مكانًا للراحة والاستجمام

إذا تجوّلت في رحاب القصر بعد دخولك من إحدى أبوابه ويعتبر "باب الشّريعة" الباب الرئيسيّ منها، تجد أنّ أول ما يلفت النظر فيه الحدائق الخضراء الواسعة تتخلّلها نوافير المياه لتشكّل واحةً من الجمال تسرّ الناظرين، كذلك الأعمدة التي ترتكز عليها هذه المدينة كان تصميمها مميّزاً ومختلفاً عن التصاميم المتعارف عليها حيث أنها أقل سمكاً ويعلوها تيجان مما يعطيها صفة السيادة والعظمة، وإذا خاطبت الجدران تجد ان الكتابات المنقوشة عليها تعطيك كلاماً مختصراً ذا معنىً عظيم والحديث في كلّ واحدةٍ منها يحتاج إلى مقالة بكاملها غلب عليها عبارة "لا غالب إلا الله".

أمّا العجيب الذّي أذهلني هو الكيفّية التّي عمل بها المهندسون لمدّ الحمراء بالمياه لتغذية الحدائق وتأمين مصدر الحياة إلى ما لا يقل عن ٥٠٠٠ مواطن يقطنها، ولم يكن بالأمر الهيّن حيث أن أقرب مصدر للمياه يقع على بعد ١٣ كم شمال القصر وهو نهر دارو ويقع على مستوى منخفض مقارنة بالقصر ولا يوجد في ذلك الوقت مولّدات ومضخّات لجلب المياه من مستوى منخفض إلى مستوى عالي.

قام المهندسون ببناءِ سدٍّ مستواه أكثر ارتفاعاً من الحمراء، وله جانبان أحدهما يُحضر المياه من نهر دارو والآخر يدفع المياه عبر قنوات وأنفاق تخترق التلال في انحدارٍ ثابت لتصبّ في نهاية المطاف في السّاقية الملكيّة والّتي بدورها توزّع الماء في أرجاء القصر. وبالقرب من الحمراء يقع ما يسمّى "جنّة العريف"، قام بإنشائها ثاني سلاطين بني الأحمر محمّد الثّاني، وتضمّ بداخلها أربعة بساتين حيث اتّخذها الملوك مكانًا للراحة والاستجمام.

في فترة حكم عبد الرحمن الدّاخل ١٣٨ ١٧٢ هجريّة ازدهر المعمار في الأندلس بشكل لافت للنظر، فتمّ إنشاء الرصّافة وهي من أكبر الحدائق في البلاد، وتمّ إنفاق ما يقارب ٨٠٠٠٠ دينار ذهبيّ في بناء مسجد قرطبة الّذي قام بتوسعته بعد ذلك عبد الرحمّن الناصّر أثناء فترة حكمه ٣٠٠ ٣٥٠ هجريّة، وأحضر له النّاصر من إيطاليا قبّة على شكل محارٍ كقطعة واحدة ليصبح آية من آيات الفنّ المعماريّ في قرطبة.

هكذا فتحوا البلاد وأخرجوها من ضيق الدّنيا إلى سَعةِ الدّنيا والآخرة، فعمروها أكثر ممّا عمروها فلم يقتصر الفتح على الحروب والغزوات فقط وإنما على ما نهض به الرجّال من عمارة الأرض والازدهار بها أيضاًK فحقّقوا بذلك خلافة اللّه لهم في الأرض، وكما قال الشّاعر تميم البرغوثيّ:
لم تُنبت الأرض القوم بل نبتت منهم بما شيّدوا وما زرعوا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.