شعار قسم مدونات

ظل الفلسطيني في شعر محمود درويش

blogs - محمود درويش
أعدتُ الاستماع -صوتيا- إلى قصيدة محمود درويش الملحمية (مديح الظل العالي)، القصيدة التي قيلت ما بعد أحداث بيروت، والصمود الفلسطيني، والخذلان العربي، والخروج … وانتابني السؤال التالي: أين ظلنا العالي؟ في الحقيقة شعرتُ بفخر كبير حين صفّق الحضور لمفردات التحدي الفلسطيني والصمود الأسطوري الوطني، (فألف قذيفة أخرى ولم يتقدم الأعداء شبرا واحدا) لّتُمثّل على الأقل حالة الدفاع الذي جرّبه الفلسطيني في ظل الأيدلوجيا العالمية الإسرائيلية لتخضيع المقاومة آنذاك..
كتب محمود درويش في قصيدته عن ثباته، أعني -ثبات النضال الفلسطيني- في مواجهة العدو/الأعداء، وتؤرقه الوحدة والخذلان العربي وانصراف الصحابة، لكن الفلسطيني كان (وحده يقاوم وحدة الروح الأخيرة)، حتى وإن استند إلى (جدارٍ ساقطٍ في شارع الزلزال)، تلك الحالة الفلسطينية الفريدة، كانت قد انعكست على الأبعاد الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والشعبية، ليس فلسطينيا فحسب، إنما على المستوى العربي أيضا، فكتب مظفر النواب (عبد الله الإرهابي) (ليتأكد أن منظمة التحرير انتصرت، رفضت رفضا قاطعا)..

لكنّ الزمنّ قد تبدل وتغير، ولم تعد بيروت ولا الفدائي يحمل أكثر من طاقته، فخرجت المقاومة من بيروت إلى الهجرة الجديدة كما قال درويش، أو إلى فلسطين كما قال عرفات.. تبعَ ذلك أبعادٌ أيدلوجية مختلفة، ليست مجال حديثي هنا، لكن أبرزها معاهدة السلام مع الاحتلال، ويبدو أن درويش قد أدرك مبكّرا خطورتها، فقال خلال مفاوضات مدريد سطرا شعريا – وإن نفى أنه موجّه للوفد المفاوض-، لكن وحسب قراءاتنا، فليس إلا لهذا الوفد، حين قال: ((إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار، لماذا تطيل التفاوض يا ملك الاحتضار)، وبرأيي لم يكن حديثه عن سقوط الأندلس إلا خوفا من سقوط فلسطين..

تغير الظل عند درويش حين كتب قصيدته الظل، كان الظل يفعل ما يفعله الفلسطيني، يمشي فيمشي، يقف فيقف، يجلس فيجلس، كُتبت هذه القصيدة للتعبير عن الحالة التي يعيشها الفلسطيني

عموما، عاد الفلسطينيون إلى جزءٍ من أرضهم، و(دُمُقرِطت) إن جاز لي التعبير العملية السياسية، وأُجريت انتخابات أولى، ثم ثانية رئاسية، وتشريعية، بعد الانتخابات الثانية التي شاركت فيها (حماس) تغير المشهد الفلسطيني، ولم يرض كثيرون عن حكم الحركة -رغم ديموقراطية- العملية الانتخابية، وما بين جذب وشد، ازداد الصراع، مما أسفر عن (الانقلاب) كما تنعته فتح، أو (الحسم) كما تحب أن تسميه حماس.. عندها خسرنا بُعدا آخر في قضيتنا، لا نزال نمسح دمه، ولا نزال نرفع راياته الصفراء والخضراء على حساب علمنا الوطني المنشود.

في هذه الفترة كان الظل العالي يختفي رويدًا رويدا على المستويات كافة، فلم يكن من صحاب قصيدة الظل العالي إلا أن كتب (أنت منذ الآن غيرك)، وبما أنني صرت غيري فبالتالي سينعكس الظل معي، لأن الظل تابع صاحبه، وبعدما كان ظلنا في المنفى عاليا، المنطقي أن يصبح أعلى في بلادنا، لكننا (كذبنا حين قلنا نحن استثناء)، فسقطنا من علوٍّ شاهق ورأينا أننا لا نختلف عن الآخرين، بل إننا أسوأ حين (صرخنا فوق وجه ضحيتنا، الله أكبر)، هذا السقوط كسر ظِلّنا، أو أننا بإرادتنا كسرناه (فإن لم نجد من لم يقتلنا، قتلنا أنفسنا بأيدينا لئلا ننسى).

إذا بين مديح الظل العالي، وأنت منذ الآن غيرك، كان هذا الظل يتراجع وينكسر، ((فأن تصدق نفسك أسوأ من أن تكذب على غيرك ) قال درويش، والحقيقة أننا صدقنا أنفسنا لأن فعلنا النضالي كان يستحق هذه النظرة، والشاعر نفسه أعني درويش، قد صدّق معنا، وكتب مديحا لظلنا العالي، الآن وقد تساقطنا صرنا (نملُّ صورة النجرس في ماء الأغاني الوطنية)، فتغير الظل عند الشاعر حين كتب قصيدته (الظل) حيث كان أي الظل، يفعل ما يفعله الشاعر/ الفلسطيني، يمشي فيمشي، يقف فيقف، يجلس فيجلس، وهذه القصيدة برأيي، كُتبت للتعبير عن الحالة السياسية التي يعيشها الفلسطيني، فحين استدار الفدائي إلى الطريق الجانبية (السلام) (قلّده الظل وسار في نفس طريقه)، إذن هكذا الظل كان كصاحبه، وسيبقى كصاحبه، وحين لم نعد نؤمن بالمقاومة الباحثة عن وطن، صار ظلنا المقاوم يقصر، يتلاشى، يختفي، حتى ودّع درويش الدنيا وهو يقول: (أنا لاعب النرد، أربح حينًا، وأخسر حينا، أنا مثلكم أو أقلُّ قليلا..)!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.