شعار قسم مدونات

بعيداً عن الحرب قريباً من الحياة

blogs - girl
أصابتني منذ فترة قريبة آلام صدرية حادّة وأرق ليلي، وبعد عرض نفسي على طبيبةٍ مختصّة وإجراء الفحوصات اللازمة، تبيّن أن منشأ هذه الآلام سيكيولوجي وليس فيزيولوجي، فنصحتني الطبيبة بالخضوع لجلساتٍ في العلاج النفسي. ولأني (على عادة كل السوريين) الطبيبة الأولى لنفسي قررت أن أتهم فيس بوك والنشرات الإخبارية بهذه الآلام، وأن أحملهما المسؤولية كاملةً عمّا وصلت إليه حالتي النفسية، رغم علمي أن هناك مُسبباً آخر لما أعاني منه، وهو هذه الأرض الأوروبية الباردة، ولكني اخترت الطرف الأضعف في هذه القضية أو الجزء القادرة على السيطرة عليه.

يد الحرب في سوريا لا يدي أوصلتني إلى ألمانيا، حيث المحاولات المستميتة في الحصول على عملٍ يحترم شهاداتي التي حصلت عليها في وطني، واللُهاث اليومي وراء تعلم اللغة والثقافة والعادات، والسعي لإظهار الاندماج، والإثبات على مدار الساعة للقاصي والداني أنّي مسلمة Cool، وأن حجابي لا يُخفي تحته قنبلة موقوتة، وثيابي الواسعة لا تخفي تحتها حزاماً ناسفاً، والتأكيد المستمر على أن الحزن في عينيّ منشأه الحرب في بلدي، وأنه لم يسبق للمسلمين أن احترفوا الحزن.

لا يد لي في العيش بمجتمعٍ يتمتع ببرودة واضحة في العلاقات الاجتماعية، ويُمضي يومه وفق روتينٍ قاتل وتخطيطٍ سنويٍّ مسبق، ويعيش ليعمل لا يعمل ليعيش (على رأي الفرنسيين بالألمان)، ولكن لي يد باستنزاف أعصابي أمام شاشات التلفزيون ومتابعة ما لا يقل عن ست نشرات إخبارية يومياً بالإضافة إلى البرامج الحوارية السياسية والأفلام الوثائقية ذات الطابع السياسي.

كنت بحاجة لمتابعة نشرات الأحوال الجوية رغم أنه ليس لديّ أي خطة للعودة لحضن الوطن، بحاجة للاستماع إلى آخر الأغنيات العربية
كنت بحاجة لمتابعة نشرات الأحوال الجوية رغم أنه ليس لديّ أي خطة للعودة لحضن الوطن، بحاجة للاستماع إلى آخر الأغنيات العربية

إذاً توقفت مدّة شهرٍ كامل عن تصفح فيس بوك ومتابعة الأخبار، وبالإضافة إلى مهامي اليومية (التي ذكرتها سابقاً في اللُهاث والسعي والاستماتة) أمضيت أوقاتاً في قراءة رواية من الأدب البوسني وأخرى من الأدب العراقي، ولم يُجد ذلك نفعاً، فلن يُطيّب خاطر السوري مجازر البوسنيين أو ويلات العراقيين. وقررت أن الألم السوري لن يُزيله إلا ضحك سوري، فتابعت سلسلة أعمال كوميدية سورية أُنتجت بين عامي 1995 – 2000 لتُسّوق إلى محطاتٍ خليجية مدفوعة الاشتراك، وبعد عرضها جماهيرياً لاقت انتقادات حادّة ثم تقبلها الناس لكثرة تكرارها.

كنت بحاجة لمتابعة نشرات الأحوال الجوية رغم أنه ليس لديّ أي خطة للسفر أو العودة لحضن الوطن، بحاجة لمشاهدة النشرات الرياضية التي لا أتابعها عادةً، بحاجة للاستماع إلى آخر الأغنيات العربية والغربية الـ Hits، بحاجة لقراءة رواية رومانسية لم يكن عنوانها ليُغريني أبداً، بحاجة لمتابعة بعض خطوط الموضة الحديثة التي لم تكن تعني لي شيئاً من قبل، كنت أريد مساحةً في حياتي لقصص الناس العاديين، فبعد الحرب ما عاد هناك أشخاصٌ عاديون.

نجحت الوصفة (وصفتي بطبيعة الحال) في تجاوز الآلام الجسدية لهذه الأزمة النفسية، ونجحت أيضاً في تخفيف تعلقي بالأخبار وانشغالي اليومي بالحوارات الفيسبوكية المرهقة للأعصاب مع متابعي صفحتي، هذه الحوارات التي كانت تبدأ باستئثار كلّ طرفٍ منا بالحقيقة، وتنتهي دوماً بحائطٍ مسدود. فبعد هذه السنوات العجاف من عمر الحرب السورية، تموضع كل سوريٍّ في مكان، وأصبح من المستحيل مهما حدث من ضرباتٍ كيماوية أو مجازر طائفية أو حروبٍ عرقية أن يُبدّل أحدٌ منّا موقعه، وسقف الوطن الذي انخفض حتى حبونا تحته، ما عاد يتسع للجميع.

والآن بعد أن خضت تجربة التمتع بترف الحصول على حياةٍ عادية، لم يعد هناك ما يُغريني في العودة لهذا الجدل السفسطائي العقيم، فرأيي أو رأي غيري لن يُقدم أو يؤخر، لن يُنهي الحرب أو يحسم الانتصار لصالح طرفٍ على الأطراف الأخرى (فاللاعبين على الأرض السورية كُثر)، لن يؤثر أحد حتى لو كان من قادة الرأي أو صفوة المجتمع في إنقاذ هذا الشرق من الانحدار المتسارع نحو الهاوية، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.