شعار قسم مدونات

هوس الكتابة.. وهاجس الإبداع

blogs الكتابة

تعد الكتابة من أرقى فنون التعبير والتثقف والتواصل، وقد اهتدى الإنسان إلى الكتابة كغيرها من الفنون الأخرى شأن الرسم والموسيقى، للتعبير عما يخالج عواطفه الجياشة، ومشاعره الفياضة، وأحاسيسه المرهفة. ويعتبر الكاتب نتاجا للمجتمع أو البيئة التي نشأ فيها، يؤثر فيها وتؤثر فيه، يعيش تجارب أفرادها ووقائعهم، فينقل كل ذلك في قالب إبداعي رائع، بأسلوب محكم مؤثر يلذ القارئ ويأسر السامع ويجذب المتلقي، من هنا تصدق مقولة "الإنسان ابن بيئته" على الكاتب أيضا، فهو يعد ديوانا حاضنا لكل الهموم التي ينبض بها مجتمعه، وسجلا لكل الأفكار التي تشغل أفراده.

 

وبذلك تعتبر المجتمع مرتعا خصبا لكل الأدباء والكتاب، يستقون منه القصص والأخبار، ويمتحون منه الحكايات والآثار، لتكون فحوى ومضمونا لأعمالهم القصصية والروائية والمسرحية؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر، فرواية "بداية و نهاية" للأديب المصري نجيب محفوظ، اقتبست مادتها من الواقع المصري وما كان يكتنفه من فقر ومعاناة، وروايته الأخرى "اللص والكلاب" تضمنت معان ومدلولات رمزت لسلوكات طغت في المجتمع المصري في الفترة التي أرخت لها الرواية من قبيل الغدر والخيانة والانتقام، ولم تزغ رواية "الخبز الحافي" للمغربي محمد شكري هي الأخرى عن معادلة التعبير عن الواقع، فقد تضمنت فصولا من جروح غائرة، لشاب مغربي خبر المعاناة بكل ضروبها، وعاش لوعة الألم بجميع أشكالها، وذلك إبان فترة الاستعمار.

الكتابة ليست أمرا هينا وشيئا سهلا كما يعتقد البعض، فالصحفي مثلا حينما يهم بكتابة مقال ما، فهو يهدر الأوراق تلو الأوراق، ويمنحه كل وقته وعقله وباله، بغية أن يخرج ذلك المقال في أحسن صورة وأبهى حلة
الكتابة ليست أمرا هينا وشيئا سهلا كما يعتقد البعض، فالصحفي مثلا حينما يهم بكتابة مقال ما، فهو يهدر الأوراق تلو الأوراق، ويمنحه كل وقته وعقله وباله، بغية أن يخرج ذلك المقال في أحسن صورة وأبهى حلة
 

جميع هذه الأعمال إذا، شكل الواقع أو المجتمع عمادها، وبؤرة أفكارها، ومشتل أحداثها وفصولها. وإذا ألقينا لمحة سريعة على التاريخ، وجدنا أنه ومع مرور الأزمنة والعصور، ما فتئت الكتب تكثر والمؤلفات تنتشر، وبذلك أصبح للكتابة حظوة وشأو لدى الشعوب والمجتمعات. فما الذي يدفع الكاتب إذا إلى الكتابة وباستمرار، دون أن يجد الكلل إلى نفسه سبيلا، والنضوب والأفول إلى أفكاره طريقا؟

إن الكتابة تسكن الكاتب، فتصبح وجوده الذي يتحرك، وكيانه الذي يتماهى، فيغدو الكاتب مفتونا بالكتابة مهووسا بها. وحينما يعمد إلى الكتابة فإنه يجد متعة ولذة منقطعتي النظير، لا يحس بهما غيره، وذلك لأن ما يكتبه ليس شيئا منفصلا عن ذاته وكيانه، بل إن ما يكتبه متصل بذاته الإنسانية، وبعواطفه، وبمشاعره وأحاسيسه، بمعنى أن الكتابة تشكل بالنسبة للكاتب الكل في الكل، فهي ليست فقط وسيلته لمحاكاة الواقع والأحاسيس، ولكنها أيضا غايته المنشودة وهدفه الأسمى. ومن ثمة فهناك قوة دفينة ومحرك لا مرئي يدفع الكاتب نحو بحر الكتابة، ألا وهو الشغف والحب والهوس بالكتابة.

 

والكتابة ليست أمرا هينا وشيئا سهلا كما يعتقد البعض، فالصحفي مثلا حينما يهم بكتابة مقال ما، فهو يهدر الأوراق تلو الأوراق، ويمنحه كل وقته وعقله وباله، بغية أن يخرج ذلك المقال في أحسن صورة وأبهى حلة، وفي هذا الصدد تقول غادة السمان: "وحين أخط نصا ما تظل حشرة التفكير السوداء تعذبني فيما بعد تهمس كالوسواس: بدلي هذه الكلمة اشطبي هذا السطر أعيدي كتابة هذا النص كله"، وهو ما يعني أن الكاتب يتجشم الصعاب حينما يكون بصدد كتابة شيء ما، بل إن من الكتاب من لا يبرحون المكتبات، أو أي مكان آخر هادئ، وذلك بعيدا عن أنظار الناس، ومنهم من مكث مدة أربعين سنة لتأليف كتاب واحد.

 

إن الكتابة فن يشغف به الكبار والصغار، فحتى الشخص الذي لم يسبق له القراءة والكتابة، يرغب هو الآخر بأن يدون شيئا ويضرب بسهمه بالكتابة ليعبر عن مكنونات نفسه ومضمرات وجدانه

ويجد الكاتب في بعض الأحايين صعوبة واستعصاء يكمن في الجمود الذي يصيب عقله؛ بحيث لا يصبح قادرا على التفكير في أي مسألة، أو التنقيب عن أي فكرة، وبعد مدة يعود الكاتب فيطارح عقله عله يجود عليه، فيحبر الأفكار ويكتب الأخبار.

إن الكاتب وهو يكتب، يضع نصب أعينه عنصر الإبداع، ذلك أن العمل المكتوب لا يمكن أن ينال حظوة لدى القارئ إذا لم تتوافر فيه شروط التفنن والإبداع؛ فالقارئ يمكن أن يقرأ العمل الخالي من التفنن والإبداع، لكنه لا يؤثر فيه مثل ما يؤثر فيه ويسكنه العمل الذي احتوى خصيصة الإبداع. فما العوامل التي تسهم إذا في ضمان الإبداعية لأي نص مكتوب، بحيث يغدو النص المحبب والمفضل من لدن القراء والمتلقين؟

إن الكاتب يحرص دوما على مراعاة الجانب الجمالي في كتاباته، وهذا الجانب الجمالي يتحقق بمجموعة من العناصر والخصيصات، على رأسها الفكرة؛ فالنص أو الكتاب أو المقال لا يمكن أن يجذب القارئ إلا إذا كان ذا فكرة هادفة، والكاتب البارع هو الذي يتناول الأفكار الهادفة ويعرضها في يسر وسهولة، لأنها الأساس الذي لا يستقيم النص إلا بوجوده وتواجده، وكل نص لا ينطوي على فكرة هادفة يكون مصيره الهجر والنسيان.

 

فضلا على هذه الخصيصة التي تضفي طابع الإبداع على أعمال الكاتب، هناك أيضا العاطفة، فالكاتب وهو يقبل على الكتابة ينتقي الصور المؤلمة فيجسدها بألوان الانفعال، ويضخمها بعنصر البروز ويستغل عامل التهويل إلى حد ما، فيزيد في تضخيم المسألة الصغيرة، وتصغير الأمر العظيم، مما يهز وجدان القارئ أو السامع، فلا يملك إلا أن ينفعل، فينساق القارئ مع المكتوب استجابة لنداء العاطفة التي أطلقها الكاتب، ولا يغفل الكاتب كذلك جانب الأسلوب؛ بحيث يعتني وينتقي الألفاظ الملائمة للتعبير، وهذه الألفاظ لا تكون جافية بل سهلة تناجي القلب وتخالج الشعور.

هذه العناصر جميعها تتحد إذا لتنسج خيوط الجمال والإبداع في النص أو الكتاب أو المقال، وهي أولويات يراعي الكاتب تحققها في نصه، ليغدوا عمله محكما حصيفا، ويضمن له بذلك الذيوع والانتشار والقبول. إن الكتابة فن يشغف به الكبار والصغار، البارعون والمبتدئون، فحبها يشمل ويطول الجميع، فحتى الشخص الذي لم يسبق له القراءة والكتابة، يرغب هو الآخر في أن يدون شيئا ويضرب بسهمه في الكتابة ليعبر عن مكنونات نفسه ومضمرات وجدانه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.