شعار قسم مدونات

بلد الحريات.. حقيقة أم وهم؟

blogs لبنان

لطالما عرف لبنان بأنه بلد الحريات والديمقراطية في محيطه العربي. فهو البلد الذي ينظر إليه كساحة مفتوحة للتعبير الحر عن الرأي، كما تتمتع وسائل إعلامه بسقف عال في تناولها مختلف المواضيع وعلى رأسها السياسية. ومنذ انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتحولها إلى ساحة مفتوحة للجميع لإيصال الآراء المختلفة، كان من الطبيعي أن تسود أجواء حرية التعبير سماء العالم الافتراضي.

 

ولكن عندما ننظر إلى واقع الحال، نجد تناقضا كبيرا في كيفية منح هذه الحرية لرواد مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان. ففي الآونة الأخيرة بدأت السلطات اللبنانية بتعقب صفحات التواصل الاجتماعي عبر مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية وبالتعاون مع "مخبرين إلكترونيين" وذلك بهدف مراقبة ومعاقبة أصحاب الحسابات التي يصدر عنها "القدح والذم" بحق شخصيات سياسية، طائفية وحزبية.

 

إلى هنا، الأمر ما زال طبيعياً باعتبار أن حرية التعبير لا تكفل لأي شخص التعرض للآخرين بقدح وذم، وباعتبار أن حريتك تقف عندما تبدأ حرية الأخرين. فانتقاد بعض المسؤولين أو "الزعماء" في لبنان أصبح كفيلاً باستدراجك إلى أروقة أقسام التحقيق الذي قد يطول لبضع ساعات وربما يصل إلى أيام، مع العلم أن ممارسة حرية التعبير حق مشروع عززته مواقع التواصل من خلال اتخاذ المواقف وعرض الآراء حيال المواضيع والقضايا العامة في إطار مراعاة القانون. فالسلطات تعاقب المنتقدين بتهمة "القدح والذم"، التي استطاعت من خلالها ترسيخ نمط جديد مقلق باعتقال من ينتقد المسؤولين الحكوميين من صحافيين وناشطين إلكترونيين.

 

إن
إن "القدح" و"الذم" و"التحقير" ليست اتهامات واضحة التعريف بالقانون اللبناني، إذ أنها قوانين تتسم بالغموض ويمكن استخدامها بطريقة فضفاضة كوسيلة للقمع
 

وبحسب الدستور اللبناني، إن حرية التعبير مضمونة لكل المواطنين دون تمييز "ضمن دائرة القانون". إلا أن قانون العقوبات اللبناني يجرّم القدح والذم بحق المسؤولين الحكوميين ويجيز الحبس لمدة أقصاها عاما في مثل هذه القضايا. أما المادة 384 من قانون العقوبات تجيز السجن من 6 أشهر إلى سنتين بتهمة تحقير رئيس الجمهورية أو العلَم أو الشعار الوطني.

 

لكن الجدير ذكره هنا أن القوانين التي تسمح بالحبس ردا على انتقادات موجهة إلى أفراد أو مسؤولين بالدولة تتنافى مع التزامات لبنان الدولية إزاء حماية حرية التعبير. كما أن "القدح" و"الذم" و"التحقير" ليست اتهامات واضحة التعريف في القانون اللبناني، إذ أنها قوانين تتسم بالغموض والإبهام ويمكن استخدامها بطريقة فضفاضة كوسيلة لقمع وترهيب من ينتقد قرارات وسياسات المسؤولين الحكوميين. فتقيد حرية التعبير يبدأ من استخدام قوانين التشهير الفضفاضة التي بات أداة لاستهداف نشطاء ومعارضين وترهيب صحفيي الإنترنت والمدونين ومنعهم من التحدث بالمواضيع التي تستفز بعض المسؤولين.

 

لا تقف المسألة عند هذا الحد، فهناك مشكلة أخرى تندرج ضمن تطبيق القوانين المذكورة أعلاه، فالمسؤولون عن مراقبة ومحاسبة من ينتقد المسؤولين الحكوميين على مواقع التواصل يرون بعين واحدة. فالإجراءات القانونية لا تتخذ بحق "المنتقدين" بشكل متساو. فهناك من يشهّر بشخصيات سياسية وأحياناً دينية دون أن يطبق عليه القانون الذي نفسه طبق على أشخاص لم يشهّروا بالمسؤولين الحكوميين بل اكتفوا بالانتقاد.

 

إن المعادلة القائمة هي: ممنوع أن تنتقد أو تعبر عن رأي يتعارض مع سياسات ومصالح الشخصيات والأحزاب السياسية بلبنان. لكن هذا الأمر متاح لأنصار بعض الأطراف السياسية المهيمنة بالبلد

وهنا لا نتكلم عن حسابات شخصية فقط بل الأمر وصل إلى صفحات ناشطة على موقع فيسبوك تحديدا، تقوم بعرض منشورات تتضمن تشهيرا ببعض رموز الساحة اللبنانية دون حسيب ولا رقيب. فما هي المعايير المتبعة في التفريق بين الانتقاد وبين التشهير والقدح والذم؟ في الواقع لا يوضح القانون هذه المعايير، ويبدو أن أتباع بعض الفرق السياسية في لبنان لا يمسهم هذا القانون وبالتالي فإن أي كلام يصدر منهم تجاه مسؤول أو زعيم لبناني يندرج ضمن خانة الانتقاد حتى لو كان جليا للجميع أنه يتضمن تشهيرا وفيه من القدح والذم ما فيه.

 

يبدو أن المعادلة القائمة إذا هي: ممنوع أن تنتقد أو تعبر عن رأي يتعارض مع سياسات ومصالح  أغلب الشخصيات والأحزاب السياسية  في لبنان. لكن هذا الأمر متاح لأنصار بعض الأطراف السياسية المهيمنة في البلد وبصيغة ترقى في غالب الأحيان لمستوى التشهير والقدح والذم.

 

فهل بات نقاش الأفكار وعرض الآراء ممنوعا في لبنان إلا لفئات محددة؟ وهل المطلوب التبعية للأشخاص والطوائف والأحزاب ليتمكن الناس من التعبير عن آرائهم بحرية؟ وهل تواجه الدولة اللبنانية مشاكلها بتكميم الأفواه، وإسكات الأصوات المعارضة، وقمع الحريات؟ تساؤلات تبقى مفتوحة أمام واقع لا يعكس حرية في التعبير، ولا انفتاحا على الآخر المختلف، ولا تقبلا للانتقاد ويكرس ازدواجية في التعاطي مع مستخدمي مواقع التواصل وفق انتماءاتهم الحزبية والطائفية والسياسية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.