أن تبحث عن الأزهار وترى جمالا مختلفا بها، ألا تنسى ألوانها ورائحتها، أن يُصيبك يوما شوكها، أن تلامس أصابعك النافذة في يوم بارد، أن تراقب بهدوء من نافذتك أحدهم دون أن يشعر بك، أن تُمسك بيدك الحجارة مع العمال وترى بعينك خطوطك ترتفع يوما بعد يوم لتصبح حقيقة بعد أن كانت أحلاما في رأسك، أن تجلس أمام البحر وترى تناقضه ما بين صفاء أعلاه وظلام أسفله، هدوءه وغدره، سكونه وخوفه، أن تشعر بفقراء هذا العالم مع كل خط ترسمه في غير موضعه، فالطوبة التي ستضعها هنا، سوف يُحرم منها أحدهم هناك، أن تقضي يوما على كرسي متحرك، أن تجعل ذلك سهلا، أن تقضي يوما مع بعض الأطفال، وأن تتصرف مثلهم، أن تجلس على هيئة القرفصاء في ركن غرفة خالية وتنظر عاليا نحو السقف وتسجل ما تشعر به.
لكي تصير معماريا إنسانا عليك أن تفكر في الجميع، أن تقرأ عن بلد لا تعرف عنها شيئا، عن ثقافتها وأعرافها وسياستها واقتصادها وفنها وكل شيء عنها، أن تتعلم التسامح، مع نفسك أولا قبل الآخرين |
أن تجلس الجلسة نفسها في حديقة مستند على جذع شجرة، أن تصادق الألوان وتعرف متى وأين تستخدم، أن تحاول سبر أغوار هذا العالم المليء بالأسرار وألا تتوقف عن السؤال والتفكر، ألا تهمل مئات السنين مما قام أجدادك خلالها بحل مشكلات أرضهم وعمارتهم آتيا بنماذج مستوردة "لا تحل ولا تربط"! أن ترى الأنمطة المرسومة على نسيج تعزله إحداهن، وأن تراقب مشاعرها وحركات يدها العاملة، أن تقف على حافة نهر مزدحم بالناس وترى تفاعل الناس مع المياه، أن تقرأ في كل مجال، كما قالوا، أن تملك من كل بستان زهرة، أن تعلم أنه يوجد من يعيش في هذا العالم غيرك، وأنهم أكثر كثيرا منك، أن تعرف كيف وصلت البنايات إلى ما هي عليه الآن، وعما إذا ما كان يجب أن تستمر كذلك أم لا، أن تتعلم لغات أخرى، فهي تضيف إليك الكثير مما يطول شرحه، أن تعلم سر ما حدث في "بروت إيجو"، أن تفكر ما إذا كان الناس أسعد معيشة قديما ولماذا؟ أن تتوه، أن تتعلم كيف تقود دراجة في شارع مزدحم.
أن تتعرف على جيرانك، أن تعرف المسافة التي يمكنك من خلالها التعرف على الوجوه، أن تجرب إحساس النظر إلى الناس من بناية عالية، تراقب أنشطتهم، تنظر إليهم من بعيد، أن تعرف معنى القرب والبعد، متى يصبح الشيء قريبا جدا ومتى يبدأ في الابتعاد؟ أن تشاهد النجوم في صمت، أن تنام تحت شجرة في يوم حار، أن تقرأ الشعر والرواية، وتفهم معنى الفن والموسيقى، أن تشاهد الكائنات التي تعيش معنا في ذلك العالم، وأن تتذكر أن رحمتنا بهم واجبة علينا، أن تشعر بقيمة حياة الإنسان نفسه وراحته!
أن تعرف ما المطلوب لكي ينام المرء مستريحا، أن تعلم أن تصميمك سيؤثر على كل فرد يستخدم هذا البناء شخصا شخصا، وعلى المجاورين وعلى الطبيعة المحيطة بل وعلى الأرض كلها! أن تتعلم قول نعم ولا، كل في موضعه، حتى وإن وُضعت أمامك كل الإغراءات، أن تقرأ في الفلسفة وعلم النفس، أن تعرف معنى الحوائط، العتبة، الأبواب والنوافذ بشكل عميق، عن معانيها في الانتقال من عالم إلى عالم مغاير تماما، أن تعرف رائحة الأرض بعد المطر، وتعرف لما يحتضن بعضهم الخشب عند رؤيته ولا يحتضون الخرسانة؟ أن تشعر بمعنى الخوف والطمأنينة، أن تتسلق جبلا، أن تنظر إلى حركة السحاب والموجات وتفكر في تكامل الطبيعة ووحدتها الدالة على وحدة خالقها.
أن تتذكر دوما كم نحن صغار في هذا العالم، أن تحاول دوما أن تترك أثرا من بعدك، أن تشعر بما تحاول الصحراء أن تخبرك به، والغابات –إن صادفتك!- أن تشاهد أم مع طفلها وتحاول الشعور بما يشعر به كليهما، أن تقرأ عن بلد لا تعرف عنها شيئا، عن ثقافتها وأعرافها وسياستها واقتصادها وفنها وكل شيء عنها، أن تتعلم التسامح، مع نفسك أولا قبل الآخرين، أن تصبح مجنونا أحيانا، أن تقضى أياما في قرية بعيدا عن كل أنواع الأجهزة الإلكترونية، أن تحاول التحدث مع أناس لا تعرفهم عن أي شيء، أن تكتب، أن تحدث نفسك مجددا، أن تعرف كيف تحب، والكثير.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.