شعار قسم مدونات

في عِداد المطاردين، بين ثانية وأختها

blogs-syrian

حكايتنا هنا قديمة حديثة تقليدية في إطارها مبتكرة في أحداثها فهي تدور بين بطل ووغد كعادة كل الحكايات لكن بطلنا ليس خارقاً أو عبقرياً أو ذو مكانة رفيعة بل طالب جامعي صنفوه إسلامياً وسموه إخواني والوغد بالضرورة ليس معتوهاً يريد السيطرة على العالم أو السطو على المصارف بل جهاز أمني غرضه السيطرة على عقل كل من تسول له نفسه ولو في لحظة غضب أن يعترض على الحاكم وحكومته المعصومة والسطو على بيوت الآمنين في الرابعة فجراً والتعذيب الوحشي.

    

أبرز ما يميزهم، مسميات عدة أطلقت على تلك الفئة المشؤومة فقالوا "البوليس السياسي" وقالوا "أمن الدولة" وأخيرا قالوا "الأمن الوطني " وللحق هذه المسميات التي تفوح منها معاني الوطنية والحفاظ على الدولة العظمى من أخطار التفكك وعبث الخونة بها تتفق وتتسق بكل قوة مع مدعي الوطنية ممن تعلقوا بظل الحاكم واعتبروه هو الوطن والدولة والأمة والوحدة والنهضة … إلخ والذين لم أكن واحداً منهم بل ألد أعدائهم. 

   

دنيا الجاهلية، تلك الدنيا التي حاربنا كي لا يعيشها الناس أردنا لهم حياة حرة كريمة لكن قومي استعجلوا اللقمة والضحية في كل ذلك كان أنا ومن على شاكلتي في القبور والسجون والمنافي

ككل أقراني في بلدتنا اعتدت أن أجالس أصحابي بعد صلاة الجمعة لنتبادل أطراف الحديث و نتشارك طعام الإفطار، يوم جميل هادئ لا يشوبه شيء غير أن حملة من عدة "بوكسات" و "مدرعات" محملة بضباط و عساكر أمن الدولة تجوب البلدة تبحث عن أحدهم وهو بالضرورة معارض سياسي وسموه بالإرهاب. وبين ثانية وأختها أتلقى اتصالاً من أبي ظننت بداية أنه سيستعلم عن مكاني للاطمئنان لكنه بفزع وغضب لم أعهده سألني عن مكاني ثم قال جملته التي قلبت حياتي رأسا على عقب "اختفي بسرعة عشان بيدوروا عليك" حينها سقط قلبي في يدي ولم أدر بم أرد، حسبته يمزح لكن لهجته لم تكن كذلك!

     

أسرعت للبيت كي أتخلص من كل ما قد يدينني عندهم كالكتب (الإخوانية) كما يصنفونها، حذفت كل صوري وذكرياتي كي لا تكون وبالاً على من شاركتهم تلك اللحظات ثم ودعت بيتي على عجل لألحق بقطار المطاردين! نعم بين ثانية وأختها أصبحت في عداد المطاردين أصبحت محكوماً بألا أرى أبي وأمي إلا متخوفا على عجل وممنوعا من دخول قريتنا ومحظوراً من صحبة إخواني ورفقة أصدقاء الطفولة واتقدت نار الشوق في قلبي لتزيدها الأيام اضطراماً.

 

وفي عداد المطاردين خطوت أولى خطواتي مستقلاً سيارة لتخرجني إلى محافظة أخرى وبجانب النافذة بينما كان الهواء العليل المنبعث من الحقول على جانب الطريق يحتضنني بقوة مودعاً هاجت الأفكار والعواطف يتصارعان وأنشأ قلبي يتغنى بأبيات هاشم الرفاعي إذ يقول:

"ويدور همس في الجوانح ما الذى في الثورة الحمقاء قد أغراني 
أو لم يكن خيرا لنفسي ان أرى مثل الجموع أسير في إذعان 
ما ضرنى لو قد سكت وكلما غلب الأسى بالغت في الكتمان"

   

اختفت القرية وجاراتها وبدأت المدينة بكآبتها وجمودها وروحها المفقودة تطل شيئا فشيئا ورحت أتطلع في وجوه الناس متسائلاً في أي دنيا يعيش هؤلاء؟ أم في أي جحيم نعيش نحن؟ هذه فتاة التف ذراعها بين ذراع صديقها ومشيا يتضاحكان وهاذان شابان فرغا من لعب التنس ويمشيان مشية كبر وغرور ولم لا وقد حيزت لهما الدنيا بحذافيرها وذلك متغطرس آخر أيقظ الشجر والحجر ببوق سيارته ليبعد متسولاً تشبث بها يطلب ما يسد رمقه ورمق عياله، وتقطع تلك المدينة الفارهة لتصل إلى عشوائيات قذرة على أطرافها يرزح الناس فيها تحت خطوط الفقر ويسابقون الزمن كي لا يموتوا جوعا.

      

شوق وخوف واضطراب هكذا تتلخص حياة المطارد لكنها حياة عزيزة تسمو على حياة الأنعام التي نعيشها نبحث عن الطعام والشراب والراحة تحت ظل البيادة العسكرية ونظلم و نستعبد ونهان دون أن ننبس ببنت شفة

تلك دنيا غير دنيانا دنيا الجاهلية بحق دنيا البحث عن الطعام والشراب وملذات الحياة وإن كانت تحت السياط و "البيادات " العسكرية تلك الدنيا التي حاربنا كي لا يعيشها الناس أردنا لهم حياة حرة كريمة لكن قومي استعجلوا اللقمة وإن كانت مغمسة بدمانا فصاحب السيارة والبوق خوفوه من العدالة، وصاحب البيت الخشبي خوفوه من الجوع، والضحية في كل ذلك كان أنا ومن على شاكلتي في القبور والسجون والمنافي كم أتحسر الآن على كل هتاف هتفته في مظاهرة من أجل شعب قدمنا للجلاد على طبق من فضة، دار في ذهني كل هذا وأكثر مما لا أذكر ولا أدري أصحيح هو أم لا، فاضطراب خواطري حينها فاق اضطراب الأرض التي ينفجر فيها البركان، حتى وصلت إلى منفاي.

       

حينها فقط عرفت معنى العزلة والوحدة رغم إحاطة الناس بك، عرفت معنى الشوق ولمست حرارة لهيبه شوق شديد وحنين جارف لأبسط تفاصيل حياتي القديمة أشتاق لشعاع الظهر القوي الذي يتسلل من زجاج نافذتي ليوقظني بعد ليلة سهر طويلة أحن إلى صراخ أمي وشجارها معي حين أضرب أخي الصغير وما أشوقني لانتظار أبي كي يعود للمنزل بعد يوم عمل طويل كما اعتدت دوماً، وما أشد حنيني لسهرة عائلية طويلة أضحك فيها وأتسامر مع إخواني ونتذكر مواقف الطفولة الساذجة لنضحك عليها طويلا، بينما نحشو أفواهنا بالمقرمشات آه وآه من نار الشوق التي اضطرمت واشتدت في قلبي وآه و آه من آتون الخوف الذي ألقيت فيه خوف من الاعتقال، المصير المجهول إما إلى السجن والقضايا الملفقة سلفاً أو الإخفاء القسري ثم التصفية، خوف على الأهل خاصة بعد انتهاك حرمة بيتنا فجراً خوف حتى من المشي في الشارع أو الاقتراب من المقار الأمنية، خوف أقرب إلى الهيستريا صحيح لكنه حقيقي فالكل يعلم ما يحدث في أقبية أمن الدولة من تعذيب وحشي قد يفضي إلى الهلاك.

          

شوق وخوف واضطراب هكذا تتلخص حياة المطارد لكنها حياة عزيزة تسمو على حياة الأنعام التي نعيشها نبحث عن الطعام والشراب والراحة تحت ظل البيادة العسكرية ونظلم و نستعبد ونهان دون أن ننبس ببنت شفة فالسوط جاهز وأوراق القضية كذلك، لم يكتب الله لي أن أكون من المطاردين لكنه واقع أحد إخواني الذي اختفى من بيننا فجأة لنعرف بمعاناته بعد عدة شهور فنثرتها علّها تشعل الجمر من تحت الرماد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.