شعار قسم مدونات

غوستاف لوبون والاستتراك

blogs تركيا

هذا المقال متعلق بمسألتين ورسالة، والحديث عن المسألتين يأتي ضمن ما قد حدده غوستاف لوبون، مما اعتبره "مسلمات" ناتجة عن دراسته للواقع، وقد تعتبر في هذا المقال من الفرضيات التي تحتاج إلى تمثيل لكي تُحدد أطرها. وأمّا الرسالة، فهي الهدف من هذا المقال، والتي ترمي إلى الوصول إلى مجموعتين مستهدفتين، الأولى هي مجموعة من النقّاد، والثانية هي مجموعة المعترضين، وتاليًا التفصيل.

تتعلق المسألة الأولى، كإحدى أهم مسلمات لوبون بعلم النفس الجماعي؛ الذي يختص بالوصول إلى مفهوم الشعب والجمهور العريض، وتتحدد في أنّ "اللاوعي هو الحاكم لدى الشعوب" في فهم المسائل المعروضة عليه، وليس ثمة تعامل منطقي عقلاني، سوى العاطفة التي يثار الشعب من خلالها، ويعطي الحكم منها. وجمهورنا المستهدف ضمن هذا المقال هو الجمهور العربي.

وقضية الاستتراك تعني بالمجمل "الاستقطاب بكافة أشكاله إلى بلاد الأناضول"، بكل وضوح! وتأتي ضمن الكتلة الأكبر من العالم العربي، الشعب، وإن اعتبرنا أن اللاوعي لدى الجمهور العربي قد وصل إلى الحد الذي يتعلق بشكل وثيق في الأناضول؛ فإن ذلك يعني أنّ تيار الاستتراك الذي نريد الحديث عنه قد بدأ في التكوّن منذ زمن.

الطبيعة البارزة عند الشعوب العربية هي التفكك الداخلي لدى شعب الدولة الواحدة وكذلك بين الدول المختلفة؛ والذي يمنع وجود علاقة جيدة مع غيره من الشعوب

وعلى صعيد آخر، لا يجب أن نهمل أهم "خصائص الشعب" في العالم العربي، ضمن علاقتين وطبيعة؛ فالعلاقة الأولى هي علاقة الشعب الاستعلائية بغيره من الشعوب، أي النظرة التي يكونها أحد الشعوب العربية تجاه آخر، بحيث يكون بها نوع من الترفع عن قبول الاجتماع على طاولة مستديرة، ويصاحب ذلك الأثر فجوة ثقافية، تمنع النظر المعتدل السويّ بين هذين الشعبين، وقد تكون طبيعية، ولكنها تحتاج إلى تنظيم. ومن أهم ما يعمّقها، التحريض الإعلامي والنفسي لدى الساسة لصناعة الزمر المصفقة، وهذه العلاقة تسبب تنافرًا وتوجهًا إلى شعب خارج عن البيئة العربية، مختلف عن البيئة الغربية البعيدة عن العرب، وهذه هي حالة الاستتراك، بالتوجه للشعب التركي.

والعلاقة الثانية هي علاقة تغيب فيها ثقة الشعب بزعيمه نتيجة عدم بنائها من قبله معتمدًا عليهم، أي أنن النظام العربي لم يبن على توافق بين زعيم وشعب، ولم يمثّل أي زعيم معين لون شعبه، والهيئة الكاريزمية لهذا الشعب أمام باقي الشعوب في العالم، بحيث نتذكر الشعب من وراء زعيمه؛ فكانت النتيجة أن وُجد الفراغ الزعامي لدى الشعب، وهذا أيضًا سبب تنافرًا نحو الاستتراك، توجهًا لدى الزعامة التركية.

وأما الطبيعة البارزة عند الشعوب العربية، فهي التفكك الداخلي لدى شعب الدولة الواحدة وكذلك بين الدول المختلفة؛ والذي يمنع وجود علاقة جيدة مع غيره من الشعوب، كأن يكون هنالك نفرة مذهبية أو عرقية أو جهوية، وبالتالي يمنع ذلك توحيد الجبهات لتكوين ضغط معين على الزعيم بحيث تتشكل علاقة سليمة بين الزعيم والشعب، وعدم مقابلة الأنظمة العربية لهذه الحالة المرضية ببناء مواطنة حقيقية، تعالج أمراض فايروس سايكس_بيكو، وهنا التحدي البارز الذي يلعب عليه اللوبي المضاد (داخليًّا وخارجيًّا) لتوجه العرب للترك.

فوجود حالة قناعة لا واعية لدى الشعب العربي في الاستتراك، يعني أنها حالة رد فعل لكل ما سبق.. فإن لم تعالج، أيها الزعيم العربي، الحالة المرضية في بلدك، فإن لاوعي شعبك سيقوم باللازم! وسيختار وجهته، ولن يمنعه أحد عندها.

وأمّا المسألة الثانية، فمتعلقة بعلم النفس الاجتماعي الذي يحدد علاقة الجماعة بالفرد، أي بانتقال استتراك الشعوب "من طبقة الشعب إلى النخب"، وهي مسلمتنا الثانية لدى لوبون في فكره، وتأتي نتيجة لترسيخ اللاوعي في الاستتراك لدى الشعب، ثم انتقالها إلى نخبه، أو لمن يسمون في علم الاتصال الجماهيري؛ بقادة الرأي العام. ولا يجب نسيان المنبع الآخر لدى النخب في فهم الاستتراك، ألا وهو وجود قابلية لدى النخبة، كحد أول، تمثل العدل والإنصاف في التوجه لقضايا الشعب. والحد الثاني تتبُّعهم للواقع، وتكوينهم الوعي العاقل، الذي يتشارك القسمة مع لاوعي الشعوب في الاستتراك.

وكل فرد في النخب العربية يتحرك ضد الشعب المستترك، هو بالضرورة يرسخ فيروس سايكس_بيكو، والذي ذُكرت أعراضه أعلاه. وليس شرطًا عدم وجود طريق آخر لحل تلك المشاكل-إن وجد من الأصل اهتمام من "النخب المضادة" بالشعب! – فالقضية لا تطرف فيها؛ ولكن الحديث محصور في الشعب العربي المستترك الذي وجد متنفسًا لحل مشاكله المستعصية، والذي أعرض حاكمه عن توسيخ أقدامه بطينها الذي يخفي سعادة الذهب الأبدية تحته، في إرضاء أمته.

إن حجة الناقد التركي هي الخوف من عقدة "الخلافة التركية الجديدة"، بحجة أن الأوروبيين "أعداء الخلافة" سيرون توجه العرب تجاه تركيا، فيزيدون من مكرهم، وكأنه يمكن إخفاء حالة الاستتراك عن أعينهم!

إن تأثير اللاوعي الجماهيري على وعي النخب سيكون مهمًا، وكذا هو كبير، فهو بمثابة سيل جارف، من عاكسه، إن لم يقدم حلًا لتلك المشاكل، فهو صاحب الخسران المبين. وأمّا من مشى مع التيار، فيحتاج التعقل والحكمة لضبط حركة الشعب. ومن كان محايدًا فسيؤول مصيره إلى مقولة دانتي؛ "أحلك الأماكن في الجحيم هي لأولئك الذين يفضلون الحياد عند الأزمات الأخلاقية".

وأما الرسالة، فهي تتعلق بمن يحاول الوقوف أمام هذا التيار الجارف، بالشكل الخاطئ غير الحكيم.. فالقضية تتعلق بإقامة العدل وإحلال السلم مع الشعوب والنخب السائرة في قافلته. ومن يقف قبالة هذا التيار هما نوعان من النخب المضادة، الأولى هي مجموعة من النقاد الأتراك، والثانية المعترضين العرب، وهم ما فتئوا يقولون "حذار حذار من الاستتراك"، ويدورون في فلك بعضهم، مع استعجابنا من اختلافهم في التوجهات! فالمعترضون العرب هم "المناكفون" للتحضر التركي يحذرون العرب من امبريالية تركية مزعومة، والنقاد الترك "مؤيدون، أشباه يمينيون ومحافظون" يميلون لنشر العدل التركي في المنطقة والدفاع عن قضاياه! ولا نعرف ما هو الرابط العجيب بينهما!!

إن حجة الناقد التركي هي الخوف من عقدة "الخلافة التركية الجديدة"، بحجة أن الأوروبيين "أعداء الخلافة" سيرون توجه العرب تجاه تركيا، فيزيدون من مكرهم، وكأنه يمكن إخفاء حالة الاستتراك عن أعينهم! أو حتى أنهم سيخففون مكرهم إن وقفنا أمام حالات الاستتراك تلك! ويكأنه لا يُخطط ولا تُضرب الدول الآن ببعضها للتخريب على سيل الاستتراك هذا! ليس من الخطأ نقد بعض العرب، لإصلاح التطرف في تأييد الدولة التركية، ولكن التعميم وعدم إبراز هوية النقد تعد مسألة غير صحية.

وأما المعترضون العرب، فشأنهم شأن آخر، وهو التحذير من مشاريع واهمة لا دليل عليها، لا منن كتاب الواقع، ولا من سنة السياسة التركية. فرغم وضوح الدمار البنيوي في الدولة "الوطنية" العربية بعد قرن من الزمان على التقسيم الأعظم، فإنهم يريدون حتى منع الشعب من التقاط أنفاسه ووصول غايته وتحقيق أهداف حياته، ويزيدون الطين بلّة بكتم الأنفاس. هؤلاء نقول لهم، إمّا أن تحرّموا الغناء من أصله، أو لترقعوا القربة التي هتكتموها وأنتم تنفخون بها وتنتجون النشاز بلا طائل!!

إن الرابط العجيب بين تلك الفئتين هو عدم إدراك معضلة الشعب الحقيقية المذكورة آنفًا، ولا يكفي معرفتها، بل الإحاطة بها. ويكون ذلك بإدراكها ثم العمل على محوها، وإقامة حالة من التوازن والنظام بين وعي النخب الموافقة للشعب ولاوعي الشعب المستترك، وهو السبيل لكسر ترهات النقاد والمعترضين على إرادة الشعب المكلوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.