شعار قسم مدونات

الأغنية الشعبية الفلسطينية في ميزان النقد الثقافي

blogs الدبكة الفلسطينية

لا شكَّ أن دراسة الأغنية الشعبيّة قد أخذت حيّزا لا بأس به في مجال الدراسات الثقافية، حيث غدت في طلائع اهتمامها إلى جانب اشتغالها في حقول الزمن، والفضاء بأشكاله المحلية والقومية والإقليمية والعالمية، ووسائل الإعلام، والجنوسة، والتعدد الثقافي، والمواطنة العالمية، إلى غيرها من الحقول التي لا يتسع المجال لذكرها.

إن السؤال، أو مجمل الأسئلة التي تدور المدونة هذه في فلكها: هل يمكننا الإفادة من أطروحات الدراسات الثقافية في مجال الأغنية الشعبية في سبيل دراسة الأغنية الشعبية العربية بوجه عام، والفلسطينية، – في المدونة هذه- بوجه خاص؟، هل التربة والثقافة اللتان رَبَت فيهما الأغنية الشعبية الغربية توازي تلك التي رَبَت فيهما الأغنية الشعبية العربية؟، وهو سؤال – حسب تصورنا- جد مهم في الصدد هذا، ولا فكاك من طرحه، خاصة إذا أخذنا بعيْن الاعتبار أثرَ الثقافة التي ربت فيها الأغنية الشعبية الغربية في موقف الدراسات الثقافية منها بِنَحْوٍ خاصّ، وأن الدراسات الثقافية كتخصص يعدّ تخصصا ملتزمًا تجاه حقول ثقافية كَهاته بِنَحْو أخصّ.

بداية، لا بأس من أن نعرّف على عجالة تخصصَ الدراسات الثقافية، ومسوغات ظهوره قبل ولوجنا دائرة اشتغاله بالأغنية الشعبية، ليكونَ تذكرة لمن يعلم، وإثراء لمن لا يعلم. إن الدراسات الثقافية كتخصص حديث العهد نسبيا حتى في الغرب، إذ ترجع بداياته إلى ستينيات القرن العشرين في بريطانيا على أيدي مجموعة من الناشطين والمفكرين والأكاديميين اليساريين، ثم أخذ ينتشر في الدول الناطقة بالإنجليزية، والدول الناطقة بالفرنسية، وبعدها أخذ طابعا عالميا اتساقا مع التوجه العولمي الذي حصل على صُعد الحياة المختلفة، الفكرية، والسياسة، والاجتماعية، والاقتصادية.

لأجدر على تسويق خطاباته وتثقيفها وتخصيبها في هذات العصر هو صاحب الأهل والأهلية، فلا بد للأغنية الفلسطينية من أن تعلن التزامها تجاه قضيتها الفلسطينية
لأجدر على تسويق خطاباته وتثقيفها وتخصيبها في هذات العصر هو صاحب الأهل والأهلية، فلا بد للأغنية الفلسطينية من أن تعلن التزامها تجاه قضيتها الفلسطينية
 

خرجت الدراسات الثقافية من رحم الدراسات الأدبية عموما، وما يسمى بالليفيسية، فالثقافة بالنسبة إلى الليفيسية ليست مجرد نشاط متعة أو إمضاء وقت فراغ، بل تهتم بتكوين أفراد ناضجين ذوي إحساس بالحياة بنحو حقيقي ومتوازن، كما يأتي ارتباطها وتعالقها مع النقد الأدبي بسبب اعتماد كلتيهما في تحليلات الخطاب على تخصصات معرفية أخرى، كعلم الاجتماع، وعلم النفس، والتاريخ واللغويات.

إن الإنجاز الذي لا يمكن إنكاره للدراسات الثقافية، والفكر ما بعد الحداثي، هو إعادة النظر إلى مفهوم الثقافة، نحو زعزعة سلطة النص المكتوب، إذ لم تعد الثقافة تلك الثقافة الراقية المقتصرة على النصوص المكتوبة بلغة راقية، بل يمكن أن يُعَد أي شيء نصا/ خطابا، حيث إن النص من منظور الدراسات الثقافية موضوع للنقاش، باعتباره نمطا من التعبير ذا مغزى شكلا ومضمونا.

ولأن الدراسات الثقافية جاءت مع مفكرين يساريين، ولأن أحد أهدافها التصدي لأشكال الهيمنة المختلفة، فقد تعرضت للهجوم من لدن القوى السياسية ذات التوجه المحافظ والليبرالي الجديد في أثناء استعراض فنون الأغنية الشعبية الغربية التي اعتنت الدراسات الثقافية بدراستها كالهوب والروك، نجد أن هاته الفنون من الأغاني قد نشأت في أحضان فضاءات الحشيش والمخدرات، كما أخذت هاته الفنون بالترويج لهاته الثقافة، كذلك، فإن مشاهير فنون الأغنية الشعبية الغربية قد أخذت بالتعاقد مع علامات تجارية في الأزياء للترويج لها (وهذا أمر جد مهم في بيان سُبل التسويق والدعاية والترويج التي تتخذها العلامات التجارية). 

هذه الأمور كان لها تأثير بارز في مسألة الالتزام في الدراسات الثقافية، الالتزام بمفهوم عدم الحياد، حيث إنها تميل نحو وضع نفسها بجانب من لا توفر لهم البنى الاجتماعية سوى النزر اليسير، والالتزام بمفهوم تعزيز التجارب الثقافية والاحتفاء بها.

لمتلقي الخطاب أثره ودوره فيما آلت إليه الأغنية الشعبية الفلسطينية كذلك، ذلك أن المتلقي هو صاحب السلطة، وهو البوصلة التي تحدد نجاح الخطاب من فشله

إن الاختلاف الثقافي بين فنون الأغنية الشعبية الغربية والفلسطينية يجعلنا نقرأ الأغنية الفلسطينية في سياقها الثقافي الخاص، وبما أن الأغنية الشعبية خطاب شفهي، وبما أن كل خطاب يتأسس على ثلاثة أركان رئيسة: المنتج، والخطاب/ النص، والمتلقي، فإننا سنستعرض كل ركن بما تتيحه المدونة هذه.

عندما نطالع شخصية المغنّي الشعبي الفلسطيني في هذا الوقت، نجدها شخصية قد اتخذت من الأغنية سبيلا للرزق، وهو أمر غير مخل، لكنّ المخل هو الإسراف في النظرة المادية والغلاء الفاحش الذي نجده عند قيام الحفلات الشعبية، وكأنها أضحت مسألة تجارية ليس إلا.

ثم إذا انتقلنا إلى معاينة المعرفة الخلفية، والحصيلة الثقافية لمنتج الخطاب/ المغني نجدها قميئة، وهو ما يظهر جليا في مضمون الخطاب المنتَج/ الأغنية، ففي ظل صراع الفلسطيني مع الآخر الإسرائيلي على الأرض، لا بد من الأغنية الشعبية الفلسطينية أن تكون أغنية ملتزمة بتثقيف الجمهور، خاصة والجمهور الذي يتلقاها أفراد الشعب بمستوياتهم وأعمارهم المختلفة.

يؤسفنا أن نجد رموزنا الفلسطينية التي تعكس هويتنا وتؤصلها كالأرض، والزيتون، والزيت والزعتر، والحصيرة، والمفتاح، والدار، وباب الدار، وبيارة الحمضيات، والحطة والعقال…، أقول: يؤسفنا أن نجد هذه الرموز قد أخذت بالأفول، وذهبت أدراج الرياح أمام خطابات لا نسمع فيها سوى كلمات وجمل لا معنى خلفها ولا مقصد، فمن (اللي بحب النعنع هذا النعنع نعنع) إلى (دح دح دحية) نقرأ على الأغنية الشعبية السلام. 

لمتلقي الخطاب أثره ودوره فيما آلت إليه الأغنية الشعبية الفلسطينية كذلك، ذلك أن المتلقي هو صاحب السلطة، وهو البوصلة التي تحدد نجاح الخطاب من فشله، وما رواج أغانٍ شعبية قميئة لا معنى وراءها إلا مؤشر على شح الرصيد الثقافي للمتلقي، وسذاجته. 

إن العصر الذي نحياه هو عصر خطابات، والأجدر على تسويق خطاباته وتثقيفها وتخصيبها هو صاحب الأهل والأهلية، فلا بد للأغنية الشعبية الفلسطينية من أن تعلن التزامها تجاه قضيتها الفلسطينية حتى يكون لها موطئ قدم، وأثر في عصر الخطاب الذي نعيشه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.