شعار قسم مدونات

أيها الزائرون خيامنا

مدونات - مخيمات
على عتبة الوطن المحرقة نصبنا أو لنقل بدقة نُصبت لنا أعوادٌ وأقمشة جمعها سياج شائك، وأحاط بها حرس عُربٌ وعجم سيضمنون وجودنا في هاتيك الخيام أبدًا وقد قيل لنا إنا إقامتنا مؤقتة. على مرمى قلبٍ وحسرة كانت تقبع بيوتنا الأولى، مجللة بالتحنان والستر، يعلوها ضحيج هادئ، ويُطربها ضحكنا مستسلمين لأقدرانا الخبيئة ناعمي البال إلا من نظرة شاردة لمستقبل بسيط كأحلامنا، يطوّقنا الأهل من متاعب الحياة فيعاركون العمر خارجها لنحيا داخلها كفافًا أعفّة، فنكبر وما زلنا في عيونهم أطفالًا غضّين، نحورهم دون نحورنا.

كانت بيوتنا حينها من حجارة وطين وحبٍّ شفيف بطابق أو اثنين أو ثلاثة، صغيرة ببنيتها كبيرة بنا، لم نكن نجرؤ على التفكير بتركها أو تغييرها؛ كانت حصننا الحصين من وصب الأيّام ولظى الهجيرة وثقل الليل، جدرانها مثقلة بالذكرى والذاكرة، اصطفَّتْ عليها صور الأجداد وصورنا وفراغات للقادمين بعدنا، وخزَّنت أرضُها خطواتِنا الأولى مع ضحكات الآباء والأمهات وخطواتنا الأخيرة الغارقةِ بنشيجهم ودموعهم، واحتبست في زواياها سعادة أهلينا المقدسة، يغلفها طهر رهيف، ويصونها فرح صادق عفيف.

صوت أبي كان حياة تنبعث فينا لتحيينا من نومنا عند كل صلاة فجر، بأسمائنا واحدًا واحدًا فتُنفخ فينا الروح، ويد أمي الحانية كانت تحيل شعرنا قبل الذهاب إلى المدرسة جدائلَ من ياسمين؛ وسنابلَ قمحٍ ملأى بعطفها وخوفها وقلقها علينا للسنين العجاف، كان لنا مدرسة تحبّنا وأساتذة نرهبهم وأصحاب نحبهم. الخبز والضيوف والجيران والبستان وأطفال حارتنا وطرقاتها التي تهنا فيها فحفظناها شبرًا شبرًا، ههنا تحالفنا مع بعضنا ولعبنا وهناك تخالفنا فاعتركنا وعلى مقربة من دار جيراننا صرخ بنا عجوز لنخفض أصوتنا فتضاحكنا وفررنا من نزقه قبل أن تطالنا يده وعصاه.

ينَ الخيامِ نثرنا غضبنا ونزقنا الذي ما عاد يجدي غيرَ بقائنا على قيد الحياة؛ فقد أيقنّا بأنّ ابن الخيمة بغيرِ غضبٍ ميّتٌ، وصارَ همّنا كيفَ نخفّفُ سياطَ البردِ النّازلة على أجسادنا.
ينَ الخيامِ نثرنا غضبنا ونزقنا الذي ما عاد يجدي غيرَ بقائنا على قيد الحياة؛ فقد أيقنّا بأنّ ابن الخيمة بغيرِ غضبٍ ميّتٌ، وصارَ همّنا كيفَ نخفّفُ سياطَ البردِ النّازلة على أجسادنا.

ومرّة خطّ الأطفال على الجدران عباراتهم فارتبك الكبار وضاقت بيوتنا وانتفى عنها الستر لنجد أن حياتنا كانت وهمًا رخيصًا وصوت أبي الأجش مختنقًا ويد أمي الحانية مخشوشنة، والمستقبل والأحلام رهن بيد الظَّلمة، وحده نزق العجوز كان صدقًا وحقيقة مرتجاة.

على غير هدىً مشينا من الأرض التي نعرفها لنلقي أنفسنا في أحضانِ أرضٍ لم نألَفها، فلم نشعر بحنوّ حضنها فارتعدنا وارتجفنا ولسنا ندري ممّ؛ من البردِ أم من الخوفِ أم هو ارتجاف الخروجِ من الرّحم؟! عليها تغيّرت هويتنا فصرنا "لاجئين" وصار علينا أن نقفَ على الدّور من أجل صحنِ طعامٍ نجليه بالدّمع في صفوفِ الدّور الطويلة؛ ونحن الذين ما تزاحمت ركبُنا إلا في مشاكسة الإخوة والأخوات على الموائد التي لم نسأل آباءنا عندما نثروها بين أيدينا كيف ساقها الله لهم رزقًا وفيرًا، وصار علينا أن نفتقدَ أدنى النّعم التي ما كنّا نلتفت لها في بيوتنا التي تركناها تنوحُ في جنباتها الرّياحُ أو تئنّ تحت ركامها الذكريات.

بينَ الخيامِ نثرنا غضبنا ونزقنا الذي ما عاد يجدي غيرَ بقائنا على قيد الحياة؛ فقد أيقنّا بأنّ ابن الخيمة بغيرِ غضبٍ ميّتٌ، وصارَ همّنا كيفَ نخفّفُ سياطَ البردِ النّازلة على أجسادنا، وثقل وطأة الثلج التي تزعزعُ أركانَ بيتنا الجديد المتهالك، وكيفَ نحفرُ حولَ الخيمةِ أخاديدَ تشبه التي حفرها اللجوء في وجوهنا كي لا يقتحم دمعُ السماء المنهمر فراشنا الذي ما بقيَ لنا غيره.

هنا في مخيماتٍ تناثرت مثل الوشم غير المتناسق على يدِ لا وقتَ لديها للزينةِ تتسارعُ إليكَ الوفودُ الزائرة، تسبقها كاميراتُها وكلّها تريدُ أن تغيثكَ أو تعلمكَ أو تدعمكَ نفسيّا أمام الشّاشات! فهناكَ وفودٌ "دعويّةٌ" تكادُ تقنعنا بأننا ما عرفنا الإسلام قبلَ مجيئهم، وتريدُ أن تعلّمنا "العقيدة الصحيحة" ويفهمونَنا "أينَ الله" ويحدّثوننا عن مخاطرِ "الصّوفيّة" وبعدَ أن يديروا ظهورَهم يسارعُ إلينا وفدٌ أخرَ ليحذّرنا من "الوهّابيّة" وشرورها!! يذهبونَ جميعًا ونبقى والخيمةَ نناجي الله الذي نعرفه رحيمًا يؤنس الغريب ويجبر الكسير ويجمع المشتّتين في المنافي وقد ظنوا كلّ الظنّ أن لا تلاقيا.

تذكروا أنكم حين تنقلبون إلى سياراتكم وطائراتكم وبيوتكم مفتخرين بإنجازاتكم، ننقلب نحن إلى الخيمة، الخيمةِ التي تمثل لكم فرصةً للاطلاعِ أو تغيير الجو هي لنا وطنٌ وقد ضاعَ الوطن.
تذكروا أنكم حين تنقلبون إلى سياراتكم وطائراتكم وبيوتكم مفتخرين بإنجازاتكم، ننقلب نحن إلى الخيمة، الخيمةِ التي تمثل لكم فرصةً للاطلاعِ أو تغيير الجو هي لنا وطنٌ وقد ضاعَ الوطن.

وهناكَ على الطرف الآخر فنانون جاؤوا إلى مخيماتنا ليثبتوا حُسن نواياهم التي صاروا سفراءها، بينَ الخيامِ وهم يحملونَ طفلًا بلا لباسٍ داخليّ مع ابتساماتٍ عريضةٍ أمام الكاميراتِ يثبتونَها، وأبوه أمام الخيمةِ ينفثُ سيجارته وهو يتمنّى لو أنه يستطيعُ أن يغرس وتد خيمته في صدر البشرية التي تركت ولدَه فريسةً للاستهلاكِ الإعلامي والإعلانيّ.

أما وفود الإغاثةِ المتتابعةِ علينا وكأننا لم نرَ لباسًا قبلَهم، ولم نعرف قبلَ مجيئهم طعامًا ولا قوتًا، تلكَ التي لا ترى تسجيلَ إنجازاتها وتوثيقَ أعمالِها إلَّا على أشلاء ابتساماتِ أطفالٍ ترقبهم أمهاتهم من بعيدٍ وهم تُلتَقطُ لهم الصور التي ستكون على اغلفةِ صفحات التواصل وكتب إنجاز المؤسساتِ فتنزف قلوبهنّ وهنّ يتخيلن أنّهن يشنقنَ الفقرَ واللجوء بحبل الخيمةِ المتآمرة. يقينًا أنّ هناكَ كثيرًا من هؤلاء قد جاؤوا حبًا وحرصًا وحرقةً، لكنّهم من حيثُ يشعرونَ أو لا يشعرونَ تعاملوا معنا وكأننا من كوكبٍ مختلفٍ عن كوكبهم، أو كأننا جنسٌ بشري هبطَ إلى المخيم من الفضاء، لقد أشعرُونا أننا لسنا مثلهم فضلًا عن أننا لسنا منهم.

أيّها النّاس لسنا منبتّين لا أصلَ لنا، ولسنا كما يحلو للبعضِ أن يرمي اللاجئين "مقطّعين موصّلين"، فإنَّ لنا جذورًا هناك راسخة، وعائلاتٍ هناك ممتدّة، ولنا أصول وفروع، ولنا ذاكرةٌ تختزنُ كلَّ ما تظنون أنكم تقدمونه لنا كبراءة اختراعٍ تتفضلونَ بها علينا، لسنا بلا دينٍ تريدونَ تعريفنا به ولسنا بلا مالٍ ولا بيوت. على الرأس والعينِ كلّ جهدٍ مبرورٍ منكمُ، ومرحبا بكلّ زيارةٍ، لكن حذارِ أن تظنوا أننا غرباء عما تفعلون جهلة بما تقدّمون، وتذكروا أنكم حين تنقلبون إلى سياراتكم وطائراتكم وبيوتكم مفتخرين بإنجازاتكم، ننقلب نحن إلى الخيمة، الخيمةِ التي تمثل لكم فرصةً للاطلاعِ أو تغيير الجو هي لنا وطنٌ وقد ضاعَ الوطن.

لتكن المواقف الإعلامية والدينية مع المظلومين هي الوقوف بثباتٍ وتضحيةٍ بوجه الظالم الذي شرّدهم نهارًا علانية، لنحاربه قولًا وفعلًا ونجتثّه وأهله وجيشه وسلاحه، ونؤرّقه بأقلامنا وأقوالنا وأفعالنا وأفلامنا بهذا نسهم في تحرير المظلومين من قبضته، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، هذا ما يريده جيل الخيام منا بالفعل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.