شعار قسم مدونات

عن القرآن في زمن اللايقين

blogs- Quraan

كنت فتى هادئاً انطوائياً متفوقاً في المدرسة الرسمية والقرآنية، وفي ثلاث صوائف اعتكفت على حفظ القرآن، سعدت بذلك أيّما سعادة لاعتقادي الجازم بأنه سيكون خير حافظ لي، لكن فوجئت بدوامة الأسئلة الوجودية التي بدأت تجتاحني بغزارة وتعقيد شديد كلما اتسعت قراءاتي أكثر، وبعد سنوات ها أنا ذا أشارك تجربتي مع القرآن في عصر الارتياب.

              

القراءة مفتاح الآفاق

في خضم المطالعات المتضاربة التي مررت عليها والتي غيرت من طريقة تفكيري، حول الدين والواقع والوجود، كتب كثيرة عصفت بذهني بشكل رهيب خاصة مع قلة اطلاعي في البدايات، كان بعضها عدمي، والآخر لاديني ربوبي، و أسوأها حسب رأيي الكتب الشرعية المتشددة المتزمتة والتي كان تأثيرها عليَّ سلبياً جداً خلال مرحلة الثانوية فقد كنت مقتنعاً تماماً بفكرة العلم الشرعي الأخروي والدنيوي وأحسب أنها السبب الرئيسي في كوني انطوائيا لاعتقادي بأن الجميع مذنب ومقصر إلا أنا الملتزم المتمسك بالعبادات والأذكار اليومية، وكنت أشفق على أولئك الشباب الذين يلعبون كرة القدم أو يسمعون الموسيقى وغيرها من الأفكار البالية، ثم بدأ منحى التحرر والانفتاح يبرز شيئا فشيئاً.

            

ومع بداية ثورة مواقع التواصل الاجتماعي ازدادت حدّة الأسئلة الحرجة بشكل سريع، وهناك بدأت رحلة البحث عن مؤلفين ومفكرين معاصرين يمكنهم إسعافي ببعض جهودهم ومساعدتي للخروج من المأزق، وبفضل أصدقاء كثر تعرفت على عدنان إبراهيم، محمد شحرور، عدنان الرفاعي، على شريعتي، أحمد خيري العمري.. وغيرهم، أسماء كثيرة ساهمت في بلورة فهمي وتطوير آليتي النقد والمراجعة لدي، ولن أسهب في تعليقي على الأسماء المذكورة أو غيرها، فقد استفدت الكثير منهم وخاب أملي من بعض النتائج التي توصلوا إليها والمواقف التي تباناها بعضهم، وهذا أمر طبيعي فلا يوجد فكر إنساني كامل يحيط بكل المعاني والأجوبة. 

       

إنّ لحظات السكينة والارتياح التي تذوقتها أثناء حفظي للقرآن ما زالت إلى هذه اللحظة تغمرني حين تلاوتي، كانت لحظات ذاتية بحتة لم يرشدني إليها أحد، ولا يمكنني أن أتصور موت تلك المشاعر ببساطة مهما بلغت حدّة الشكوك التي تعصف بي

أنا أسأل إذن أنا موجود 

ثم كانت القفـزة الأكثر جرأة مع جان جاك روسو حيث يقول "هل نبحث بصدق عن الحقيقة؟" دعنا نتجاهل بالمرة عندئذ دور المنشأ وتأثير الآباء والقساوسة، ولنعرض على محكمة الوجدان والعقل ما تم تلقينه لنا منذ الصغر، لِيصرخ في وجهي الصائحون، الزم حدّك، الجم عقلك قد يأمرني بالأمر نفسه من يخطط لخداعي. 
من يطلب مني أن ألجم عقلي، عليه أن يأتيني بالبرهان أولاً"، وهو لسان حالي آنذاك، أمر محير أليس كذلك! هل يمكن حقا أن نراجع كلّ شيء، هل في العمر كفاية؟ 

             

هل كان الإعجاز العلمي مفيدًا أم مضرًا ؟

لتوضيح هذه الفكرة سأضطر لاستدعاء إحدى القضايا الجديدة القديمة في آن، وهو الجدال القائم بين الدين والعلم، ومن بين أهم مظاهره "الإعجاز العلمي"، كما نعلم أن من أهم رواده في العالم العربي، زغلول النجار، علي منصور كيالي، مع الانتشار الواسع لهذا العلم المزيف منهجاً ونتائجاً، والذي يقتات على أبحاث وجهود المخابر الأجنبية الكافرة، بالإضافة إلى كمية التدليس والمعلومات المغلوطة، يُطرح سؤال هل وظيفة القرآن أن يكون كتاب فيزياء أو بيولوجيا أو رياضيات؟ على حدّ علمي لا يوجد من تصدى لهذه المغالطات بشكل علمي. 

         

قد قلتها آنفاً، لست بصدد مناقشة أيّ من القضايا المذكورة أعلاه، بل مجرد إضاءات عابرة في عتمة الجهل المتفشي، أمة اقرأ قد بادرت بالقراءة لكن ليس بالقدر والنوع الكافي، هل ما زلت معي أيها القارئ الكريم؟ يبدوا أنني قد أطلت عليك وفتحت تشعبات أخرى، لابأس بذلك، فالعقل السؤول صفة محمودة جداً خاصة في عصر التدفق المعلوماتي، أصبح التحدي في القدرة على تمحيص الغث من السمين بدل القدرة على التخزين والحفظ المعلب.

         

الحفظ أم الفهــم؟

أكيد ستفكر في مدى ضرورة الحفظ أمام الدعوات الكثيرة إلى التدبر والفهم بدل تكرار الختمات اللامتناهية، هل يجب أن نحفظ القرآن؟ هل يوجد نص صريح يأمرنا بحفظ القرآن؟ حسناً، من الواضح جداً أنه لا يوجد أمر صريح يدعوا للحفظ، بل ليس أولوية أبدًا، كل ما يدعوا القرآن إليه هو التأمل في الآيات المكتوبة والآيات الكونية، والعمل بمقتضى الآيات المحكمات إلى مكارم الأخلاق والقيم الإنسانية وبناء الإنسان وبذل الخير والعمل الصالح. فلماذا الحفظ إذن؟

           

لا أنتظر من النص القرآني أن يفسر ظاهرة الجاذبية أو متى تتحرر القدس أو أن يؤكد نظرية علمية أو ينفيها، لكني أريده ملاذاً وزاداً روحياً أستعين به على تحديات الحياة ومصاعبها

محاولة جواب وختام 

الإبحار في عالم الفكر ممتع ولا تنتهي محاوره وأبوابه، بالنسبة لحفظ القرآن والأسئلة السابقة أعلاه، لابد أن أعترف أن لا جواب نهائي عقلي لكل ما ذكرته، وأنني ما زلت في بحث إن شئت تسميته بذلك، والعامل الأقوى الذي يجعلني أتمسك بالقرآن إلى الآن هو رابط وجداني صِرف. إنّ لحظات السكينة والارتياح التي تذوقتها أثناء حفظي للقرآن ما زالت إلى هذه اللحظة تغمرني حين تلاوتي، كانت لحظات ذاتية بحتة لم يرشدني إليها أحد، ولا يمكنني أن أتصور موت تلك المشاعر ببساطة مهما بلغت حدّة الشكوك التي تعصف بي، نعم هذا هو الدور الذي أعتقد أن القرآن الكريم يؤديه والذي يتجلى في الآية الكريمة: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".

           

فقد منحني الأجوبة العامة للوجود كما لم أجدها في غيره أبداً وكان خير معين لي لحظة هجوم الأسئلة العاصفة، ولا أنتظر من النص القرآني أن يفسر ظاهرة الجاذبية أو متى تتحرر القدس أو أن يؤكد نظرية علمية أو ينفيها، لكني أريده ملاذاً وزاداً روحياً أستعين به على تحديات الحياة ومصاعبها، وكفى به زاداً وإيماناً، وأجزم في حالتي هذه أن الحفظ كان له دور فعال في ذلك.

            

حتماً، ستعترضك قضايا وتساؤلات من ذاتك أو من غيرك، حتى لو لم تكن مهتما بالفكر، فأن تحدد خياراتك وما تؤمن به أمر مصيري، لذا أدعوك للتمسك بفطرتك وبعقلك وسعيك لإدراك الصواب، وأن تتسلح بالصبر من أجل التعلم، فحتماً ستصل يوماً إلى ما يريح فؤادك ويجبر خاطرك ويقنع عقلك.  أسوق إليك هذا الاقتباس الملهم لنفس الكاتب. "أيها الشاب الطيب، عليك دائمًا بالإخلاص والصدق والتواضع. إن جهلت شيئاً، اعترف بجهلك، فلن تخدع أحدًا ولن تنخدع بأحد.  إن تطورت مواهبك وأصبحت جديرًا بمخاطبة الجماهير، كلّم الناس بما تكنّه في ضميرك ولا تأبه إن صفقوا لك أو لا. وكثرة العلم تؤدي إلى رقّة الإيمان. " 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.