شعار قسم مدونات

على هوى من نعيش؟

Blogs-lonely

يقولون أن أصعب الأشياء بداياتها دومًا، ربما لأنّها الخطوة الأولى، الرجفة الأولى لعاشقٍ للتوّ وقع بالحب، الصرخة الأولى لطفل حديث الولادة، الكلمة الأولى لرضيع فشل مرارًا في نطق الحروف على النحو الصحيح، النبرة الأولى لمن اعتاد ارتجاف صوته كلّما همّ على الحديث، السطر الأول لكاتب يخشى ألا يحبّ الناسُ كتابته، المقطع الأول من أغنيةٍ عميقةً كفايةً للغوصِ فيها فيما أن الناس تستسيغ المعاني الجليّة والطرقات القصيرة.

      

وأنا أخشى بداية هذه المقالة خوفًا من أن يصلَ المعنى مبتورًا، أعني الشعور ربما أخشاها لأنّي أخشى النّحو الذي سيقرؤونني الناس عليه، أخشى ألّا يفهموا، ألّا يشعروا، ألّا يدركوا، ألّا يكترثوا على وجه الخصوص! منذ فترة وأنا أفكر في الكيفية التي سأبني عليها هذا المقال، كيف أرتب الكلام العشوائي لفرط ضبابيته.

    

قد يتسنّى لي اختصار كلّ فحواه في سؤال: "لمَ كلّ هذا الاعتبار الذي نوليه للناس؟"  طبعًا، ليس هو حتمًا الاختصار الأمثل لكلّ ما أودّ قوله، إنّما هو الإشكالية المركزية، ولهذا فإنّ ذلك لا يعني غياب الإشكاليات الفرعيّة التي تستدعي طرح الأزمة، أجل لأنها بالفعل أزمة طالما أنّها تُعيقنا عن استحقاق الكينونة، الكينونة التي نستمدّها من إيمان الناس، من اعتقاداتهم، من آرائهم، من نظرتهم، مما يحبّون، مما يمقتون، مما يفضّلون، مما ينفرون، مما يحبّذون، مما يستاؤون منه، نبني أفعالنا بعد مراجعة معمّقة لما يُحتمل أن يتقبله الناس من حولنا، ثم ننأى عن كلّ ما من شأنه أن يُثير استياءَهم أو يستدرج انتقادَهم.

     

عوّدونا في كل امتحان تحريري أن نُرفق حججنا دومًا بالأمثلة المُناسبة، سعيًا لجعل الفكرة واضحةً كفايةً ورغم أن الأمثلة غالبًا ما تأتي تباعًا بمخيلة كلّ من يقرأ، حسبُك أن أقول لكَ إنّنا لا نعيش وفقًا لهوانا إنّما وفقًا لما يرتضيه الناسُ لتفهمَ المعنى بأعمق ما فيه فعليًا، أغلبنا اعتاد اختيار ملابسه حسب "الموضة" أو فلنقل حسب ما اتفقت عليه المجموعة، نهذّب ذوقنا -الذي قد لا يكون مهذبًا بالضرورة- وفقًا لما نراه دارجًا، لا وفقًا لما نميلُ إليه فعليًا، على هذا الأساس كانت الأغلبية تختار حقائبها المدرسية وأدوات القرطاسيّة في سنواتها الدراسية الأولى، ننجذب دومًا للماركات المنسوخة لدى الجميع، لا شعوريًا، لأنّ الناسَ من حولنا قد أجمعوا على الانسياق خلفها، وعلى هذا الأساس أيضًا، يكبر الفردُ منّا حاملاً على عاتقه اعتقادات من حوله، ما بين الإعجاب والنّفور، الموافقة والرّفض، الإيمان بالفكرة والكفر بها، وهكذا يصير بلا حول ولا قوة منه إلى مكعّب نمطي وسط مجموعة من المكعّبات التي شكّلتها الذائقة العامة المزيفة.

           

كل منّا يخشى اعتقاد الآخر، حتى الذين نخشاهم يخشوننا، كل الذين نخاف ردود أفعالهم، لم تكُن أفعالهم مبنية على إرادتهم الخاصة، إنّما على ما رجّحوا أنّه سيروق لنا

أغلبنا يكبر بلا إرادة، بلا قدرة مسؤولة على الاختيار، بلا جرأة كافية لقول "لا" في الوقت الذي تترقب فيه المجموعة أن يوافقها، لهذا السبب لا يجد الواحد منّا الشجاعة الكافية لاختيار مساراته الدراسية حسب ميوله وقدراته الشخصيّة تبعًا لذلك، وقع الاتفاق على أنّ الآداب على سبيل المثال "شعبة الحمير" كما هو شائع عند العرب خصوصًا، لاعتقادهم بأنّها الخيار الوحيد والأخير لكل شخص قدراته العقلية محدودة، مُستبعدين وساخرين من فكرة أن تكون خيار الموهوبين أدبيًا وشغوفي الفنون، "ثم ما أقصى ما يُمكنكَ تحقيقه بهذا المسلك بربّك؟" مهما تكُن إجابتكَ عميقة، ستبدو لهم واهية وغير مُقنعة طالما أنّ ذلك لا يخوّل لك أن تكون طبيبًا أو مهندسًا أو طيّارًا، كل ما عدا ذلك هو مصير أقلّ جاهًا وتميّزًا.

          

كم من الخرّيجين كانوا سعداء فعليًا بالمجالات التي يحملون شهاداتها؟ كم منهم كانت فرحتهم يوم تخرّجهم بنجاحهم في تقرير مصيرهم لا بالمعدلات العالية التي حققوها فحسب؟ كم منّا استطاعوا إقناع أهاليهم بسلك الشعب التي أُشيع أنّ "لا مُستقبل لها ولا تُطعم خبزًا" لإيمانهم الشديد بأنّها الأنسب لإبداعهم ومواهبهم التي يؤمنون بها رغم كفر من حولهم بها؟ كم منّا يُعجب بينه وبينه بقطعة ملابس بأحد المحلّات التجارية لكنه لا يملك الجرأة الكافية لاقتنائها خشية ألّا تعجب الناس خارجًا؟ كم منّا يخشى أن يغنّي بصوت مسموع بالشارع خوفًا من أن يسخر المارّة من جنونه؟ كم منّا يتجنّب التصرف على سجيّته رهبةً من انتقادات الناس من حوله؟ كم منّا يؤثث صفحة الفيسبوك خاصّته وفقًا لأهواء الناس وما قد يستميل إعجابهم وإن كان ذلك لا يعبّر فعلاً عنه؟ كم فردٍ منّا يخشى الإفصاح عن شعوره تجنبًا لتعليقات الناس وتجريحهم؟ كم فردٍ منّا لا يقوم بالأشياء التي يودّ فعلاً القيام بها خوفًا من ألا تروق لمن حوله أو تثيرَ استغرابهم؟

       

كل منّا يخشى اعتقاد الآخر، حتى الذين نخشاهم يخشوننا، كل الذين نخاف ردود أفعالهم، لم تكُن أفعالهم مبنية على إرادتهم الخاصة إنّما على ما رجّحوا أنّه سيروق لنا، هذا تحديدًا ما ذكّرني الآن بالأغنية القائلة: "لولا الملامة يا هوى، لولا الملامة، لا فرد جناحي عالهوى زي اليمامة، وأطير وأرفرف في الفضاء وأهرب من الدنيا الفضاء، وكفاية عمري اللي انقضى وأنا بخاف الملامة" متى نكف عن خشية لوم الآخرين؟ متى نحرّر أنفسنا من نظرة الآخر ليتسنّى للآخر أن يكون مثلما يريدُ فعليًا؟ متى نستوعب أنّ "حتى اللايمين، زينا عاشقين، لكن خايفين لايمين تانيين"، متى نعفي بعضنا من هذا القيد الثقيل؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.