شعار قسم مدونات

ترمومتر الشرطي والمواطن

blogs الشرطي و المواطن

جلست ليلتها أراقب أمي وهي تصلي، بعد انتهائها كانت تجلس مطولا فوق السجادة رافعة يديها نحو سقف الغرفة. فور انتهائها تبادرت للتساؤل عن فائدة تلك الحركة؟ فعرفت منها أنها عملية الدعاء. راقت لي العملية؛ حيث أنه إذا ما أردت شيئا في خاطري يمكنني طلبه إلى الله في كامل السرية ويستجيب إذا كان في الأمر خير. نهضت مسرعة لأتمم شروط الصلاة المبتدئة فيها، لم أتخشع في أي ركعة وربما كانت صلاتي مليئة بالأخطاء، كان كل همي هو الجلوس بعد الصلاة والدعاء ليستجاب دعائي: دعاء طفلة تفتقد أباها.

كان أبي قد غادرنا لأحدى المهام في عمله في أحد المهام التي تحتم عليه التنقل للتدخل السريع، إذا ما كانت الأوضاع غير هادئة في أحد مناطق البلاد، وكانت وجهته آنذاك احدى مدن الصحراء المغربية. لحسن الحظ وقف القدر في صف دعائي حيال عودة أبي، فعاد ليلتها. لكنه عاد كما لم يذهب! كانت ساقه مكسورة، لا أتذكر إن كانت تؤلمه، لكني أتذكر جيدا ألمي عند رؤية أبي على تلك الحال، ببذلته الملطخة بالدماء؛ بذلته التي لطالما تفنن في الحفاظ على كل تفاصيلها، فهي تمثل مهنته كموظف في الشرطة. دماء لم تظهر شيئا من القوة بقدر كل ما كشفت من قلة الحيلة.

تلك العلاقة بين الشرطي والمواطن شبيهة بترمومتر، تعتدل حرارته وتصبح دافئة ولطيفة إذا وضعته بأحد الدول المتقدمة حيث مرسخ في الأذهان مبدأ؛ الشرطة في خدمة المواطن كأسلوب تطبيقي وليس مجرد شعار تنديدي. وما إن تضعه بدول الجنوب حتى ترتفع درجة حرارته لتصبح لادغة، فيتحول الشرطي لوحش متحرك في أعين أغلبية المواطنين أما إذا تعلق الأمر بمواطن حاقد فهو سفاح طليق! لا يبث لا للأمن ولا الوطن بصلة؛ فهو أكبر جاهل لا يحمل أي شواهد أو ديبلومات كل ما في حوزته هي عصاه الحديدية ومسدس.

علينا أن نخطط للحرية وليس للأمن فقط، وذلك على الأقل لأن الحرية هي الشيء الوحيد الذي يجعل الأمن آمنا
علينا أن نخطط للحرية وليس للأمن فقط، وذلك على الأقل لأن الحرية هي الشيء الوحيد الذي يجعل الأمن آمنا
 

الشرطة لغة هي الخير، أما اصطلاحا فهي مهمة مجموعة من الأشخاص المخولين من قبل الدولة لتلخص مهمتهم في حماية أمن البلاد واستقرارها ذلك عبر الحد من الاضطرابات المدنية واعتقال خارقي القانون الوضعي، يتم اختيارهم طبقا لمجموعة من الشروط المحددة وبعد تكوين يشمل عدة مجالات منها الجسدي والنفسي والعقلي.. وبذلك تشكل الجهاز الحامي للدولة بحاكمها ومواطنوها وممتلكاتها.

كان أول ظهور للشرطة بالإسلام في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عليه، حيث كلف مجموعة من الرجال بحراسة المدينة وحمايتها من أي اعتداء خارجي وكان أول علامة إسلامي قد دخل الشرطة هو أرطبون العرب؛ عمرو بن العاص ليستمر مفهوم الشرطة ويتابع تطوره فيعرف مع العباسيين معنى القائد ومعنى الزي الخاص الذي يميزهم عن باقي المواطنين. هذا التطور الذي أخذ منحاه السلبي فيما بعد وأضحت العلاقة بين المواطن ورجل الشرطة مضطربة بوطأة عنيفة خلفت نتائج لا تبث للإنسانية بصلة!

يقول الفيلسوف الإنجليزي كارل بوبر؛ علينا أن نخطط للحرية وليس للأمن فقط، وذلك على الأقل لأن الحرية هي الشيء الوحيد الذي يجعل الأمن آمنا. ولعل هاته القولة تلخص لنا أصل كل هاته الدماء التي أصبحنا نراها بعد كل وقفة أو احتجاج بين المواطنين ورجال الشرطة، كذلك بعض الخروقات التي أصبحت تصيب تطبيق القانون. فهل يصلح بعد الحديث عن الأمن والقانون عندما يحرم الفرد من حرياته العامة؟

ليس من الضروري أن تكون عبدا مقيدا بسلاسل حديدية لنتحدث عن حرمانك من الحرية، قد تكون حرا في مجال تحركك الضيق وفي هذه الحالة فلازالت ترافقك سلاسل قد لا تبصرها في كل تحركاتك، لكنك حتما ستحسها وتدركها يوما أو آخر. سلاسل تنكرت في قلة الفرص، التهميش، اللامبالاة والكثير من الظواهر التي ستتعرف عليها والمواقف التي ستجبر على مسايرتها عندما تبلغ أحد الإدارات، المستشفيات كذا المدارس والجامعات. لعل كل ما علينا فعله هو السعي لذلك الانسجام والتوافق بين الحرية والمساواة كهدفين للكون بأكمله وليس فقط لسياسة مجتمعية معينة.

عندما يحرم المواطن من حريته المجتمعية وحرية مواطنته في التعبير عن رأيه بكل فصاحة وحقه بالمساهمة في التغيير كذا لمسه والإحساس بمدى فعاليته وبأهمية راحته داخل وطنه، عن الإحساس بالاعتراف به وبكل ما يلزمه كإنسان من القرن الواحد والعشرين، هنا فقط قد يصبح الأمن والقانون بالنسبة له ليس سوى كلام؛ كلام وضعي، وضع ليخترق!

ما إن يتوفر أمان الفرد قبل الأرض! هنا فقط ستكون العلاقة بين الشرطي والمواطن في أحسن حللها، تلك العلاقة الخالية من شوائب الحقد والكره الذي يتضخم عند الفرد كلما تعرض لموقف لا تقبله وطنيته

لكون الأمن الحقيقي ليس هو تلك الأرض الخضراء الساحرة الهادئة، لا طير يطير ولا جندي يسير، بل هو تلك الأرض حيثما ستنام وأنت مطمئن أن الغد حتما سيكون أفضل من اليوم، فقد تجردت من خوفك على ضياع حقوقك وانتهاكها، تجاوزت تلك العتبة من التأهب حول مكانتك المجتمعية وضياع فرصك المدنية. هو فعلا أمان لكل حرياتك العامة وبذلك إنسانيتك.

فما إن يتوفر هذا الأمان، أمان الفرد قبل الأرض! هنا فقط ستكون العلاقة بين الشرطي والمواطن في أحسن حللها، تلك العلاقة الطبيعية الخالية من شوائب الحقد والكره التلقائي الذي يتضخم عند الفرد كلما تعرض لموقف لا تقبله وطنيته. وما إن يغيب تشب كل أنواع العداوة في نفس المواطن على أول شخص يجسد القانون. وهنا تتحول العلاقة من الدفاع عن الخروقات وتوفير الحماية من طرف الشرطي واحترام القانون من طرف المواطن إلى علاقة تمرد وتحاقن ومداهمات عدوانية. فكيف لك أن تؤمن بصلاحية وعدل القانون الذي يطبق عليك وكيف ستحترمه إن لم يوفر لحيثيات وجدانك داخل الوطن- كمجال مغلق- الاحترام المنتظر ويحقق ذلك العدل المنادى معك أولا؟

وهنا تكمن المغالطة، حيث أننا نطبق خاصية التعميم وبذلك بخطأ بعض الأفراد يصبح الجهاز بأكمله خاطئا. فيصبح أدنى تحرك للشرطة حتى ولو كان جزءا من دورها الاجتماعي- الذي يأتي في ثاني درجة بعد الأمني – هو قمع للجمهور المدني وخرق لحقوق الإنسان كبند دولي. التجاوزات تظل فردية وليست سياسة للجهاز مما يدخل فيها طبيعة شخصية الفرد وإدراكاته وتكوينه الذي سبق وتلقاه كذا الواجب المهني والإنسانية التي تعلو كل قوانين الكون. في مجمل الحديث، يتضح أن العلاقة بين الشرطي والمواطن ببلدنا تحيك معادلة صعبة، ترسم بشفراتها صورة جميلة عندما نرى شرطيا يساعد رجلا عجوز أو طفلا على قطع الطريق وسرعان ما تتحول لأعنف الصور عندما نرى شرطيا يجلد أحد المعتقلين بقوة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.