شعار قسم مدونات

عن سيڤروس وبروتوس

blogs سنايب

غامضَـة هي تراتيب القـدر التي تجمعنا تحتَ مظلةٍ واحدةٍ مع أناسٍ لم نعرفهُم قط. لوهلةٍ قد يرتسم في مخيلاتنا أنهم بــحاجة إلى نسجِ جسر واهي من الخيال؛ كي يعبروا من فوقهِ إلى بـوابات ذواتنا، في مؤشر لاستحالة انصهار دواخِل الرَوْحِ؛ لتختلط بهؤلاء الـــدخلاء. ولأن تراتيب القدر نافذةٌ فينا، فما لهروب من سبيل إن وقـع الاختيار علينا، وصِرنَا نتشارك المظلة ذاتها مع من لا نعرفُهم ولا يعرفوننا. ويكــأن القَدر يُخبرك حينئذٍ "اصطبر، وستُدرك الحكمة وراء ما يحدث".

فتمضي الأيام حتى يُصبح حال من كان دخيلاً بالأمس في خبر كان اليوم، نعم! صــَار هذا جزءاً من الماضي بعدما تخطى الدخيل ذاك الجسر الواهي الذي ظننت أنه سيهوي به قبلما يصل إلى مساحتك الشخصية، حتى صـــار بعدها صــاحباً، زميلاً، مُتطفلاً، سمِّه ما شئت. في الأخيـر نجح بعبُور الجـــسر ويجب أن ترفع القبعة لإصــراره، بعيداً عن التفرُّس في معرفة نواياه من وراء ذلك الإصرار.

على الهامش: حتى أنت يا "بروتوس"؟
كان "يوليوس قيصر" إمبراطوراً للرومان، وفي أواخر أيامه تربَّصت به المؤامرات. وكانت تلك المكيدة تهدف إلى الإطاحة به، وتخليص روما من "يوليوس" للأبد. وكان رأس الأفعى على عرش فحيح تلك المؤامرة هو "ماركوس بروتوس" أقــرب الأقربين إلى "يوليوس" والذي كان يشتهر في حقبتهِ بأنه أعظم الناسِ استمساكاً بالفضيلة! فكان تُربةً خصبةً لارتكاب أبشع عملية اغتيال في التاريخ كما وصفها "ويليام شكيسبير".

سقط
سقط "يوليوس قيصر" أرضاً، سقط لأنه لم يطعنه في جسده قدر ما طَعَنَهُ في كبرياءه، في ثقته، في عزة نفسه. هكذا ارتضى بالسقوط بعد إذ كانت الطـعنة ممن عبروا الجسر نحو ذاتهِ، ووثق فيهم حـدَّ الموت!

حقيقةً كان مشهد اغتيال "يوليوس قيصر" مُهيباً، ذلك الإنسان في المقام الأول قبل كونه إمبراطوراً، قد خانــه كل من وثق فيهم يوماً، تجمَّعوا من حوله، وطعــنوه في سائر أنحاء جسده إلا أنه وقف صامداً، ولم يسقط، وكأن إسقاطه أرضاً كان يستدعي أكبر من تجمُّع لحِفنةٍ من الخائنين المُرتزقة ناكثي العَهد.

ليظهر فيما بعد "بروتوس" من وسط بركة الدماء القاتمة. حتى ظـن "يوليوس" أنــه قد جاء ليُنقذه من هؤلاء الخونة، وأن هذا العرض الإجرامي على وشك الانتهاء. إلا وأن "بروتوس" اقترب منه وطَعَنَه هو الآخر بخنجره ليقول "يوليوس" كلمــته الشهيرة "حتى أنت يا "بروتوس".. إذاً فلَيمُت "قيصر".

هُنا فقط سقط "يوليوس قيصر" أرضاً، سقط لأنه لم يطعنه في جسده قدر ما طَعَنَهُ في كبرياءه، في ثقته، في عزة نفسه. هكذا ارتضى بالسقوط بعد إذ كانت الطـعنة ممن عبروا الجسر نحو ذاتهِ، ووثق فيهم حـدَّ الموت!

"بروتوس" يُولد من جديد!
فتنفَلت خيوط الأيام لتُصبح كومةً زمنية لا بأس بها، ويظهر عليكَ فيها مدى امتنانك لصنيع القدر الذي جمعكَ بمن تنهر نفسك ما لا يقل عن مرتين يومياً أنكم نعتَّه في يومٍ ما بالدخـــيل! كيف لا تفعل؟! وقد صار هذا الدخــيل أخـــوك في الروح. بـل إنه صــار كتوماً لسرداب أسرارك، ومُداوياً لجراحِك، وبلسماً جميلاً في حضرةِ أسقامك. في حضرتهِ يترك أثراً فريداً، وفي غيــابه يصيرُ المرء عليلاً. تودُّ لو أنك عرفتَهُ منذ أمدٍ بعيد. كيف لا، وهو الذي إن افتداك بنفسه فَعـَل ولا يُبالي!

لكن تُرى ما عواقب تلك المصيدة إن تخطيت حاجز الريبة، ورفعت راية الحذر، وسكنت كحيوانِ الضــَبِّ في جُحركَ مطمئناً. الجُحر الذي صـنعته من جهةٍ واحدةٍ فقط بلا مخرج آخر غير الذي حفرَت منه، ولم ترى أن "ماركوس بروتوس" كان يراك وأنت تحفر قبرك بنفسك إلى أن تفرغ تماماً من إتمامه؛ حتى يتمكن من أن يفتكَ بك في جُحر ضبٍ هذا فتكَ الضواري للفرائس. وفي لحظةٍ تنويرية أخيرة، الآن سينزع عن نفسه رداء الحرباء المتلونة، لتكون النهاية حتمية؛ لأنك كنتَ آخر قطرة حبر من فصولها!

على الهامش: "سيڤروس" بعد كل هذا الوقت؟ دائماً
في روائع "رولينغ" مؤلفة سلسلة أفلام "هاري بوتر" رُفع لنــا السِتار عن شخصيةٍ ديناميكية وُصِفت بأنها الأكثر عبقرية في الحبكة على مدار السلسلة كاملةً! إنها شخصية البروفيسور "سيڤروس سنايب" ولمن لا يعرفه فقد كــان "سيڤروس" يُظهر عداءً شديداً "لهاري بوتر" على مدار سبعة أجزاءٍ كاملة! حتى فُتح الباب على مِصراعيه وظَهرت الحقيقة في مشاهده الأخيرة واتَّضح أن دوافع "سيڤروس" والتي كانت تُحرّكه في الخفاء هي حبُّه اللامُشترط "لهاري"! وظهر ذلك جلياً في مُحاولاته المُستميتة في إنقاذ "هاري" من شبح المـوت.

وفي مشهد هو الأعظم على الإطلاق قبل موتهِ من أجل "هاري".. يسأله البروفيسور "دمبلدور" في دهشةٍ: بعد كل هذا الوقت كُنت تُساعِد "هاري"؟ فما كان من "سيڤروس" إلا وأن يُجاوب بكلمةٍ واحدة تختصر آلاف الكلمات التي يحويها قلبه. وكانت الكلمة "دائماً".

"سيڤروس" يولَد من جديد!

إن حقائق الأشخاص من حولنا هي شموس لا تغيب. قد تنكسفُ، ويحتجب النُور لبُرهةٍ. لكن حالما تتبدد غيوم الغموض، وتُرفع سطوة الكسوف، وقتها سيسود النور، ومعه فقط يُستبان سبيل حقائق مَن حولنا

وعلى صعيد آخر، تتوالى الأيام، وأنت ما زلت تنظر لهذا الدخيل بعينٍ من الريبة والنُفور، كــيف لا؟ وهو الذي تلفح عينيه بالشر، ويكأنه هو والمصائب أخوة في الرضاعة، فلا يخلوا أدنى موقع جريمة إلا ببصمات تورطه فيها. فلا هو يملك لوصَــال القُربِ منكَ سبيلاً، ولا أنتَ تُظهر نحوهُ إلا صُدوداً. ومع ذلك لم يحاول قط بأن يُدافــع عن نفسهِ أمام محكمة عدلَك الجائرة وينطق بكلمةٍ سمحةٍ جائزة، علَّه يتخلَّص من نظرتك المقيتة تجاهه، لن يُقدِم على هذا؛ لإن الأفعالَ أقــرب إليه من كلمةٍ يستقبلها فـراغ عقلك، فكيف يُدافع عن نفسه، والصوت معلوم أنه لا ينتقل في الفراغ؟!

ثم يُرفع الغطاء عن المستور، وفي لحظة تنويرية يتضح في آخر فصول النهاية أن "سيڤروس" حياتك لم يكن إلا مُخلصاً لك بصدقٍ، فمن غيره كان ليقف سيفاً صارماً بتَّاراً مسلولاً في مواجهة أعاديكَ! كان بمثابة الجُندي المجهول الذي وإن غـاب لكانت الهزيمة في أرض المعركة أمراً محتوماً! كان ما يتمناهُ صدقاً هو أن يكون فارساً من أُسطول فُرسانك.

 

حتى إذا قضى عليه الموت في معركةٍ ما، كان سيُخبرك أن الفارس الحق لا يموتَ دون سيفهِ في المعارك الطاحنة، وأنه لن يترُكك وإن فارَقـــت رَوحَهُ لجَسدهِ، وأنه سيظل يُدافع عنك حتى الرمق الأخير! إلى موت فيه الحياة… من أجل ماذا؟ ليكُن الجواب من نبع القلب… من أجل أن تعيش! فكــان ممَّن لا يملكون نصراً لأنفسهم، ولكن لغيرهم ينتصرون! كمَن وهَب للآخرين حياةً، ولا يملك لنفسهِ من الموتِ فراراً، ولا يجد لمهربٍ منه فِكَاكاً.

من هو "سيڤروس" و"بروتوس" حياتنا؟
كانت هذه المُفارقة بين شخصيتين من أبرز الشخصيات التي لا يملك المرءُ منها فِكاكاً عن وشاح ذاكرته، وكأنه يتضح بين الشخصيتين مُشاحناتٍ تتمثل في صراع صارم، كالصراع الأزلي بين ثنائية الخير والشر، الحُب والحرب، الماء والنار. فيا تُرى في حياة كلٍ منَّا كــــم "سيڤروس" وكــــم "بروتوس"؟

ربما الإجابة في علم الغيب، لكن المؤكد أن حقائق الأشخاص من حولنا هي شموس لا تغيب. قد تنكسفُ، ويحتجب النُور لبُرهةٍ. لكن حالما تتبدد غيوم الغموض، وتُرفع سطوة الكسوف، وقتها سيسود النور، ومعه فقط يُستبان سبيل حقائق مَن حولنا. الحقيقة قد يراها ذو البصيرة سريعاً، وقد لا تنكشف إلا في لحظة تنويرية متأخرة، متأخرة جداً، فَلا يفيدُ النَدم إذْ وقع البلاء.. ولا ينفع الأسى وإن امتزج بالرجاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.