تحتاج لتغيير هذه التصورات عن الرقة إلى هالة من الأحداث تشمل التراب السوري بأكمله طالما انتظرها أهل الرقة، وهذا ما تحقق لهم حين انطلقت شرارة الثورة السورية من درعا، فكانت الرقة من المحافظات الأُّول التي انتصرت لنداء الحرية الذي صدحت به حناجر أهل درعا ونظمت مظاهرات منددة بأفعال النظام مطالبة بالحرية والكرامة، علماً بأنها مظاهرات كانت تخرج في ظل قبضة أمنية مرعبة في المدينة لا تتوانى عن فعل أي شيء لإسكات المتظاهرين وقمعهم، ومع ذلك يستمر نسيان الرقة محلياً وإعلامياً، فلا الإعلام كان ينقل ما يجري داخلها من أحداث ولا حتى السوريين في باقي المحافظات علموا عن حراكها شيئاً.
ذات يوم وفي رِواقٍ من أروقةِ جامعة حلب سألتني فتاة من أين أنت، فقلت لها خمِّني، فعددت لي كافة المحافظات السورية إلا الرقة، لكني على ثقة بأن تلك الفتاة اليوم تعرف الرقة جيداً. |
يبقى الوضع هناك في الرقة على ما هو عليه إلى أن تتطور الأحداث على الأرض لتنتج حالة جديدة على الساحة السورية ألا وهي خروج أول مركز مدينة ومحافظة بأكملها عن سيطرة النظام، بشكل مفاجئ وبتاريخ الرابع من مارس لسنة ألفين وثلاثة عشر تقوم عدة فصائل مقاتلة معارضة بدخول مدينة الرقة وتحريرها من قوات النظام، حدثٌ كهذا لا بد وأن يشكل مادة دسمة لكافة وسائل الإعلام لأنه يشكل منعطفاً كبيراً في مضمار الصراع بين قوات النظام وقوات المعارضة، إلا أن التغطية الإعلامية لم تكن تليق بهكذا حدث، بل إن المظلة السياسية للثورة السورية ممثلةً بالائتلاف لم تأخذ الأمر بقدرٍ من الأهمية وتستغله لصالحها، فلا معاذ الخطيب رئيس الائتلاف آنذاك زارها ووقف على الحدث، ولا هو أبرق لها فريقاً مختصاً ليقوم بما يجب القيام به تجاه أول محافظة محررة تصلح لأن تكون نموذجاً تتضح فيه قدرة المعارضة وجديتها في العمل على الأرض، فكان الائتلاف بسلبيته تلك أقرب إلى النظام منه إلى الثورة، ناسياً ومهملاً للرقة المحررة.
وهكذا يظل النسيان سمة للرقة إلى أن جاء من يقوم بإشهارها شهرةً عريضةً ويجعلها محط أنظار العالم بأحلامٍ مبعثرة جمعت جهاديي العالم على كلمةٍ سواء، كانت الرقة نقطة ارتكاز فيها عندما اتخذوها قاعدة لهم ومقراً لدولتهم الدولة الإسلامية كما أطلقوا عليها، من هنا تحول النسيان إلى اهتمام، وأيُّ اهتمام، الاهتمام الذي تجاوز حدود الوطن والإقليم ليبلغ العالمية، فقد أضحت الرقة حديث كبرى دول العالم، يأتي ذكرها في كافة المحافل الدولية، ويُبحثُ في أمرها على منابر أرفع المسؤولين في العالم، فأفراد الإدارة الأميركية السابقة والحالية يعرفون الرقة ويحفظون جغرافيتها ودهاليزها أكثر بكثير مما يعرفه بعض السوريين عن الرقة.
وانطلاقاً من قيادة الولايات المتحدة للحرب على الإرهاب ممثلاً بتنظيم الدولة، فإن الرقة أصبحت شأناً أميركياً خالصاً يضع لها جنرالات البنتاغون الخطط والتصورات الكفيلة بدحر تنظيم الدولة والقضاء عليه، فتبدأ المعركة هناك في الرقة لتبدأ معها مرحلة جني ثمار الشهرة، فقد كان لزاماً على الرقة أن تدفع ضريبة ما اكتسبته من شهرة، لا سيما وأن شهرتها جاءت على يدِ تنظيمٍ غير قابل للعيش والاستمرار، تنظيمٍ جعلها أخطر مدن العالم على الإطلاق، تنظيمٍ جلب للرقة نقمة المجتمع الدولي فخططوا عليها لا لها وأمطروها بالرصاص والبارود ليأخذوها وأهلها بجريرة غيرهم، تنظيمٍ فرض آليات عيشٍ غريبة على المجتمع السوري جعلته يقاسي اجتماعياً واقتصادياً لدرجة خنقهِ وذبحهِ على مذبحِ أحلامٍ ليس للسوريين فيها ناقةً ولا جمل، فهي إذاً لا بدُ شهرةً لعينة تلهجُ بها ألسِّنةُ أهل الرقة قائلةً أفٍّ لها من شهرةٍ آلت أحوالها إلى خرابٍ ودمارٍ على المدينة ومرافقها وتسببت بقتل وتشريد إنسانها على نحوٍ مأساوي لا يزال مُلازِّمه مُحولاً حياته إلى جحيمٍ لا يطاق.
ذات يوم وفي رِواقٍ من أروقةِ جامعة حلب سألتني فتاة من أين أنت، فقلت لها خمِّني، فعددت لي كافة المحافظات السورية إلا الرقة، لم تأت على ذكرها كانت ناسيةً لها، لكني على ثقة بأن تلك الفتاة اليوم تعرف الرقة جيداً هي وكل من جهلَ تلك المدينة الوادعة الجميلة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.