أما وقد دخلت العالم العربي تغيرات جذرية في الخريطة السياسية خلال الأعوام السبعة الماضية فقد كان من المتوقع أن تكون هناك حالة من الوعي بحيث تشهد الساحة حوارات ونقاشات مثمرة وتحيي المجتمع الغافل منذ عقود، ولكن سرعان ما انقلب الأمر إلى حالة استقطاب رهيبة خلقت حالة شقاق بين أبناء العروبة بل الوطن الواحد بل الأسرة الواحدة، فلو كان الحال كذلك في العالم الحقيقي فهو في العالم الافتراضي أقوى وأشد، فلا تكاد تجد علاقة أصلاً بين المنشور وبين مجموع الردود عليه، فالردود تأتي فقط لترمي صاحب المنشور بأفظع ما يمكن من الشتائم، ولا يقف الأمر هنا إذ أنه توجد بعض ما أسميها (التهم المعلّبة) وهي تهم جاهزة للإستخدام عند الحاجة فلو نشر أحد ما منشور فيه دفاع عن طرف ما يتم استخدام عبوة الاتهام: (كم دفعوا لك)، ولو نشرت منشور فيه نقد لحكومة ما يتم استخدام عبوة الاتهام: (إرهابي) وقد يجوز استخدام (إخواني / إخونجي) وهذه هي المفضلة للمصريين ولو نشرت أي شيء وأنت موجود في بلد غير وطنك يتم استخدام عبوة الاتهام: (خائن لبلده) ولو أنكرت على علماني أو ليبرالي في منشور أو أصّلت لمسألة شرعية بالدليل يتم استخدام عبوة الاتهام: (متشدد) (الذين يحجرون على العقل) وهناك عدة مسميات لهذه العبوة بالذات.
يجب الحرص على الموضوعية والتجرّد، أما لو كان الهدف الحقيقي هو الحصول على الموافقة والتأييد فلا عجب من زيادة معدل استهلاك التهم المعلبة الأمر الذي سيزيد حال الأمة سوءا بأكثر مما هو الحال أصلاً. |
صار بناء حوار لأجل الوصول لقاع مسألة ما أمراً خيالياً، فعقل المتحاور مبرمج تلقائياً على نسب محاوره لأقرب جماعة تتبنى القول الذي قال به ولو صبر قليلاً لوجد أضعاف هذا القول عند محاوره تخالف عقيدة الجماعة التي نُسب إليها دون تروي، هكذا أصبحت حالة الوعي السياسي ووفرة المعلومات (من وجه) نقمة على المجتمع ليس لذات الأمر ولكن لعدم النظر إلى علل النفس هذه التي تعمي البصيرة عن وجوب اتخاذ المنهجية الصحيحة لقراءة المعلومة وتحليلها بحيث تكتمل الصورة في ذهن القارئ، ولا أتوقع أن يحدث هذا طالما أن هناك من يستثمر في وفرة هذه المعلومات للوصول إلى النجومية وجمع أكبر عدد ممكن من المتابعين وهذا على الصعيد السياسي والثقافي والشرعي، ولا أتوقع أن يحدث هذا طالما أن هناك من يدخل إلى منصات التواصل الاجتماعي حاملاً معه أكبر قدر ممكن من تلك التهم المعلبة ينتقي منها بحسب ما يناسب من المنشورات الموجودة ويستخدم.
النتيجة من كل ما حدث وما زال يحدث هي أنه: لا يوجد لدينا كبير وبحسب المثل الشعبي (اللي ما عنده كبير يجيب ليهو كبير)، والكبير هنا هو صاحب العلم والمعرفة الحكيم الذي يتم الرجوع إليه في الملمات والأمور المستعصية وهذا لا يعني تبعية العقل كما يزعم أولئك الذين انتكست عقولهم وأفكارهم فسوغوا لحرية الفكر بالتطاول على أهل العلم وحملته فكما أن طالب المعرفة ملزم بتوقير صاحب المعرفة كذلك صاحب المعرفة ملزم بدعم ما يقول بالدليل وأن يكون ما يقول واقع في مسار حياته العملية، فهي منظومة تربط طرفين كل طرف له حقوق وعليه إلتزامات تختل بسقوط أحد هذه العناصر.
عادة ما يتم تسليط الضوء على القادة الذين يشعلون حالات النزاع هذه على منصات التواصل وبعضهم وصل به الأمر إلى تنصيب لجان وفرق مهمتها تتبع نوعية معينة من المنشورات لأجل تشويه أصحابها وسبهم والتنكيل بهم، ولكن هذا لا يمنع من مخاطبة عوام المشاركين ولو بكلمة فالمسؤولية لا تسقط عنه الفرد منهم طالما أنه فتح الحساب وخاض مع الخائضين، على الكل أن يتذكر أن الهدف الأسمى من الحديث عن كل نازلة بالأمة هو الإصلاح والتقويم والنقد الذي يأتي في سياق ذلك يجب الحرص فيه على الموضوعية والتجرّد، أما لو كان الهدف الحقيقي هو الحصول على الموافقة والتأييد فلا عجب من زيادة معدل استهلاك التهم المعلبة الأمر الذي سيزيد حال الأمة سوء بأكثر مما هو الحال أصلاً.
تظل هذه مجرد دعاوى متكررة ما لم ننتبه إلى أول خطوة في الطريق الصحيح لتحقيق الوعي الكافي بأمور ومشاكل الأمة وهي تزكية النفس وتطهيرها من العلل التي يمكن أن تسيطر عليها مثل عقدة الأنا أو النرجسية والكبر على الحق وغير ذلك، كما يجب الإقرار في هذا السياق إلى حقيقة أنه لا يعدم إنسان من طاقة الغضب ولكن الفطن هو من يروض هذه الطاقة ويوجهها التوجيه الصحيح وحتى حالة الرضا يمكن أن تتحكم في قرار الإنسان فتجعله يتماهى مع الكثير من الخطأ مما يترتب عليه ضياع اتجاه البوصلة، لذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزقني قول الحق في الغضب والرضا، فالغضب عند الحديث عن أمر ما قد يعمي عن الإيجابيات ولو غلبت السلبيات والرضا قد يعمي عن السلبيات ولو غلبت، لذا يظل ضبط النفس وتصريف طاقاتها وانفعالاتها هو العامل الأهم ليس في الخوض في حوارات السياسة والثقافة فقط بل في كل مناحي الحياة وشؤونها.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.